الحلقة الخامسة عشر من التأملات القرآنية


الحلقة الخامسة عشر من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
واشكروه على نعمه يزدكم
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على سيد الشاكرين، وإمام الأوابين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول الشكر على نعم الله تعالى، التي امتن الله بها علينا في سورة النحل، ومع كونه سبحانه وتعالى عدد بعضا منها، إلا أنه قال: ]وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[([1]) فنحن لا يمكننا حصر نعم الله علينا، ولا يمكننا أداء الشكر لنعمة واحدة من نعمه علينا، لكنه المولى يتجلى علينا بفضله وكرمه، ويغمرنا بعفوه وإحسانه.
ومن هنا فإننا لو تأملنا هذه السورة من أولها إلى آخرها، لوجدناها تشير إلى نعم الله تعالى على الكون كله، وذلك من خلال الآيات الكونية، التي تتجلى فيها عظمة الخلق, وعظمة النعمة, وعظمة العلم والتدبير، وهي كلها متداخلة. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير, ملحوظ فيه، أن يكون نعمة على البشر, لا تلبي ضروراتهم وحدها, ولكن تلبي أشواقهم كذلك, فتسد الضرورة. وتتخذ للزينة, وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم , لعلهم يشكرون.
ومن ثم تتراءى في السورة ظلال النعمة وظلال الشكر , والتوجيهات إليها, والتعقيب بها في مقاطع السورة, وتضرب عليها الأمثال, وتعرض لها النماذج, وأظهرها نموذج إبراهيم عليه السلام ]إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ . شَاكِراً لَأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ[([2])
والسورة تذكرنا بنعمة الأنعام، التي نأكل من لحومها، ونشرب من ألبانها، ونركب ظهرها، ونستظل بجلودها. ]وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ . وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ . وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ . وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ[([3]) وقال تعالى:  ]وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ[([4]) وقال تعالى: ]وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ[([5])
وتشير الآيات إلى نعمة التنقل إلى ما نحب من الأمكنة، من خلال ظهور الخيل والبغال والحمير، ومن اتخاذها زينة، ثم تشير الآيات إلى ما سوف يكون بعد ذلك من وسائل المواصلات الحديثة، من سيارات وقطارات وطائرات وسفن الفضاء، هذا فضلا عن السفن والعبارات، التي تجوب البحار والأنهار والمحيطات. كما تشير الآيات إلى ذلك في قوله تعالى: ]وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ


[1] - ســورة النحل:18
[2] - ســورة النحل:120، 121
[3] - ســورة النحل:5- 8
[4] - ســورة النحل:66
[5] - ســورة النحل:80
يَهْتَدُونَ[([1]) فتأمل معي هذه النعم، حيث إنه سبحانه وتعالى سخر البحر، لنأكل منه اللحم الطري، ونستخرج منه اللؤلؤ والمرجان، لتتخذ حلية، كما سخره لحمل السفن والبواخر، لتنقل أثقالنا إلى بلاد لم نكن نستطيع الوصول إليها إلا بالمشقة.
ومن نعمه علينا، أنه سخر لنا الليل والنهار، والشمس والقمر والنجوم، والأرض والسماء. ومن قبل ومن بعد، نعمة خلقِنا وإيجادِنا من العدم، وتعليمنا بعد جهلنا. ]وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ[([2])  
وتتجلى أعظم نعمه علينا، وقدرته سبحانه وتعالى في اللبن والعسل. فمن أين يكون اللبن، ومن أين يكون العسل؟  ]وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً لِلشَّارِبِينَ[([3]) فهذا اللبن، الذي تدره ضروع الأنعام. مم هو ? إنه مستخلص من بين فرث ودم. والفرث ما يتبقى في الكرش بعد الهضم, وامتصاص الأمعاء للعصارة، التي تتحول إلى دم. هذا الدم الذي يذهب إلى كل خلية في الجسم, فإذا صار إلى غدد اللبن في الضرع، تحول إلى لبن ببديع صنع الله العجيب, الذي لا يدري أحد كيف يكون.
وعملية تحول الخلاصات الغذائية في الجسم إلى دم, وتغذية كل خلية بالمواد، التي تحتاج إليها من مواد هذا الدم, عملية عجيبة فائقة العجب, وهي تتم في الجسم في كل ثانية، كما تتم عمليات الاحتراق. وفي كل لحظة تتم في هذا الجهاز الغريب عمليات هدم وبناء مستمرة لا تكف حتى تفارق الروح الجسد. ولا يملك إنسان سوى الشعور، أن يقف أمام هذه العمليات العجيبة، لتهتف كل ذرة فيه بتسبيح الخالق المبدع لهذا الجهاز الإنساني, الذي لا يقاس إليه أعقد جهاز من صنع البشر, ولا إلى خلية واحدة من خلاياه، التي لا تحصى.
ووراء الوصف العام لعمليات الامتصاص والتحول والاحتراق تفصيلات تدير العقل, وعمل الخلية الواحدة في الجسم في هذه العملية عجب لا ينقضي التأمل فيه.
ثم يأتي دور النحل، ذلكم المخلوق العجيب، الذي يعمل بوحي من ربه، من خلال ما أودع الله فيه من سر عجيب. ]وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ . ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ[([4])  
فالنحل تعمل بإلهام من الفطرة التي أودعها إياها الخالق, فهو لون من الوحي تعمل بمقتضاه. وهي تعمل بدقة عجيبة يعجز عن مثلها العقل المفكر، سواء في بناء خلاياها, أو في تقسيم العمل بينها, أو في طريقة إفرازها للعسل المصفى.
وهي تتخذ بيوتها - حسب فطرتها - في الجبال والشجر وما يعرشون، أي ما يرفعون من الكروم وغيرها - وقد ذلل الله لها سبل الحياة بما أودع في فطرتها وفي طبيعة الكون حولها من توافق. والنص على أن العسل فيه شفاء للناس قد شرحه بعض المختصين في الطب  شرحا فنيا، وهو ثابت بمجرد نص القرآن عليه. وهكذا يجب أن يعتقد المسلم استنادا إلى الحق الكلي الثابت في كتاب الله; كما أثر عن رسول الله r.


[1] - ســورة النحل:14- 16
[2] - ســورة النحل:78
[3] - ســورة النحل:66
[4] - ســورة النحل:68، 69
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري أن رجلا جاء إلى رسول الله r فقال: إن أخي استطلق بطنه, فقال له رسول الله  r :[اسقه عسلا ] فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: يا رسول الله سقيته عسلا، فما زاده إلا استطلاقا. قال:[اذهب فاسقه عسلا] فذهب فسقاه عسلا، ثم جاء فقال: يا رسول الله، ما زاده ذلك، إلا استطلاقا. فقال رسول الله  r : [ صدق الله وكذب بطن أخيك، اذهب فاسقه عسلا] فذهب فسقاه عسلا فبرئ.
ويروعنا في هذا الأثر، يقين الرسول r أمام ما بدا واقعا عمليا من استطلاق بطن الرجل، كلما سقاه أخوه. وقد انتهى هذا اليقين بتصديق الواقع له في النهاية. وهكذا يجب أن يكون يقين المسلم بكل قضية وبكل حقيقة وردت في كتاب الله. مهما بدا في ظاهر الأمر أن ما يسمى الواقع يخالفها. فهي أصدق من ذلك الواقع الظاهري, الذي ينثني في النهاية، ليصدقها.
إن السورة تعرضت لما هو أكثر من ذلك من النعم، ولكن ذكرها، لا يتناسب مع حجم الحلقة، لذا فإنني أدعو كل مسلم للتأمل في السورة والتعمق في معانيها، كي يخرج منها بعد ذلك وهو يقول: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وأحب أن ألفت النظر إلى أمر هام، وهو: أن مصانع البشر كلها متوقفة على مصانع الله تعالى، فإذا توقفت مصانع الخالق، توقفت بعدها كل مصانع الخلق. ولا ينفع المال شيئا حينئذ، لأن المال لا يؤكل، ولكنه وسيلة لجلب الطعام والشراب. فعلى سبيل المثال: لو أن الله سبحانه وتعالى منع السماء من أن تنزل ماء، والأرض من أن تخرج نباتا، فكيف يعيش الإنسان والحيوان؟. فعلى أي شيء ستعمل المطاحن والمخابز، وعلى أي شيء تعمل مصانع النسيج.. إلخ. ولو أن الله تعالى أهلك الحيوان، فعلى أي شيء ستعمل مصانع الألبان ؟ وكيف ستكون حياة البشر ؟ هذا إن كان سيبقى بشر!! قال تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ . أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ . لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ . إِنَّا لَمُغْرَمُونَ . بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ . أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ . أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ . لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ[([1])
إذن نحن لا تنقصنا النعم، ولكن ينقصنا الشكر. ]وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[([2]) يقول ابن القيم: فمتى لم تر حالك في مزيد فاستقبل الشكر. وفي أثر إلهي: يقول الله عز وجل: أهل ذكري أهل مجالستي. وأهل شكري أهل زيادتي. وأهل طاعتي أهل كرامتي وأهل معصيتي لا أقنطهم من رحمتي. إن تابوا فأنا حبيبهم. وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم. أبتليهم بالمصائب لأطهرهم من المعايب. وقيل: من كتم النعمة فقد كفرها. ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها. وهذا مأخوذ من قوله: إن الله إذا أنعم على عبد بنعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
ومن كلام ابن القيم: ولقد قيل: الشكر قيد النعم الموجودة، وصيد النعم المفقودة. وشكر العامة: على المطعم والمشرب والملبس وقوت الأبدان. وشكر الخاصة: على التوحيد والإيمان وقوت القلوب. وقال داود عليه السلام: يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة علي من عندك، تستوجب بها شكرا ؟. فقال: الآن شكرتني يا داود. وفي أثر آخر: أن موسى قال: يارب خلقت آدم بيدك، ونفخت فيه من روحك، وأسجدت له ملائكتك، وعلمته أسماء كل شيء، وفعلت، وفعلت. فكيف أطاق شكرك ؟. قال الله عز وجل: علم أن ذلك مني فكانت معرفته بذلك شكرا لي. وقيل: الشكر،


[1] - ســورة الواقعة:63-70
[2] - ســورة إبراهيم:7
التلذذ بثنائه على ما لم تستوجب من عطائه. وقال الجنيد: وقد سأله سري عن الشكر وهو صبي. فقال: الشكر، أن لا يستعان بشيء من نعم الله على معاصيه. فقال: من أين لك هذا ؟. قال: من مجالستك. وقيل: من قصرت يداه عن المكافآت، فليطل لسانه بالشكر.
فالشكر، شكر الحال والمقال، أي يكون حال العبد وما هو عليه من الطاعة، شاكرا لله تعالى، ولا يكف لسانه كذلك عن شكره عز وجل. وفي الشكر كلام كثير، وحسبي ما ذكرت، حتى لا أطيل. وأسأل الله تعالى، أن يجعلنا من الشاكرين الصابرين الأوابين التوابين، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.