الحلقة الخامسة والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة الخامسة والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
نداء للمسرفين: لا تقنطوا من رحمة الله
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير، سيدنا محمد r الهادي البشير. اللهم صل عليه، وعلى آله وصحبه، وأهل بيته الطيبين الطاهرين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول دعوةِ اللهِ تعالى عبادَه المذنبين المسرفين إلى التوبة إليه، والعودة والإنابة إليه، فهم لن يجدوا أرحم منه يلجأون إليه، ولن يجدوا أكرم منه يلوذون به، ولن يجدوا أحلم منه يرجعون إليه. فهو الكريم، الحليم، الرحيم، الذي وسعت رحمته كل شيء، وهو الودود، الذي يتودد إلى عباده بالرحمة والمغفرة، وهو الغني عنهم، وهو الصبور والصبار، ولو عامل الناس بما كسبت أيديهم لأهلكهم جميعا، ولكنه يعفو ويغفر. ]وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً[([1]) فكل أسمائه صفات له سبحانه، وكل صفاته أسماء له جل في علاه.
وتتجلى عظمة الله ورحمته في النداء على المسرفين، الذين بلغت ذنوبهم عنان السماء، وأغضبوا الرب سبحانه وتعالى، وبارزوه بالمعاصي، فهو يناديهم، أن عودوا إلي، فلن تجدوا غيري غفارا، رحمانا رحيما، ولن تجدوا غيري توابا حكيما. عودوا إلي فأنا العظيم، أغفر الذنب العظيم، عودوا إلي فأنا الحليم، فكم عصيتموني وحلمت عليكم فلم أؤاخذكم بذنوبكم، وكم بارزتموني بالمعاصي وسترت عليكم فلم أفضحكم. عودوا إلي فأنا أعاملكم بما أنا أهله فأنا ] أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ[
إن الله تعالى يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة. ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي، مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية. ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين. ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة، صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا, ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان.
]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ . وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ[([2])
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية.كائنة ما كانت، وإنها الدعوة للأوبة. دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورجله. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث، ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط، إذا أفلت من يده الحبل، الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا، أو هناك; ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم.
يعلم الله - سبحانه - عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون; ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيىء له جميع الوسائل، ليصلح خطأه، ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية, ويسرف في الذنب, ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة، لحظة اليأس والقنوط, يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:] قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله. إن الله يغفر الذنوب جميعاً. إنه هو الغفور الرحيم[
وليس بينه - وقد أسرف في المعصية, ولج في الذنب, وأبق عن الحمى, وشرد عن الطريق - ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية, وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله، إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح، الذي ليس عليه بواب يمنع, والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان: ]وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون[. .
فالإنابة. والإسلام. والعودة إلى أفياء الطاعة وظلال الاستسلام. هذا هو كل شيء. بلا طقوس ولا مراسم ولا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء. !
إنه حساب مباشر بين العبد والرب. وصلة مباشرة بين المخلوق والخالق. من أراد الأوبة من الشاردين فليؤب. ومن أراد الإنابة من الضالين, فلينب. ومن أراد الاستسلام من العصاة، فليستسلم. وليأت، ليأت، وليدخل فالباب مفتوح. والفيء والظل والندى والرخاء:كله وراء الباب لا حاجب دونه ولا حسيب. !
وهيا. هيا قبل فوات الأوان. هيا ]من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون[. فما هنالك من نصير. هيا فالوقت غير مضمون. وقد يفصل في الأمر وتغلق الأبواب في أية لحظة من لحظات الليل والنهار. هيا.
]وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ . أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ . أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ  . أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ . بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ . وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ . وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ[([3])
]واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم[.وهو هذا القرآن بين أيديكم. ]من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة وأنتم لا تشعرون[. هيا قبل أن تتحسروا على فوات الفرصة, وعلى التفريط في حق الله, وعلى السخرية بوعد الله: ]أن تقول نفس: يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين[ . أو تقول: إن الله كتب عليَّ الضلال، ولو كتب عليَّ الهدى لاهتديت واتقيت: ]أو تقول لو أن الله هداني لكنت من المتقين[. وهي علالة لا أصل لها. فالفرصة ها هي ذي سانحة, ووسائل الهدى ما تزال حاضرة. وباب التوبة ها هو ذا مفتوح. !] أو تقول حين ترى العذاب لو أن لي كرة فأكون من المحسنين[. .


[1] - ســورة فاطر: 45
[2] - ســورة الزمر:53 ، 54
[3] - ســورة الزمر:55- 61
 فلله ما أحلى قوله في هذه الحال: [أسألك بعزك وذلي، إلا رحمتني. أسألك بقوتك وضعفي، وبغناك عني وفقري إليك. هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك. عبيدك سواي كثير، وليس لي سيد سواك. لا ملجأ ولا منجي منك، إلا إليك. أسألك مسألة المسكين. وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل. وأدعوك دعاء الخائف الضرير. سؤال من خضعت لك رقبته. ورغم لك أنفه. وفاضت لك عيناه. وذل لك قلبه].
 يا من ألـوذ بـه فيما أؤمـله           و من أعـوذ به مما أحـاذره
 لا يجبر الناس عظما أنت كاسره          ولا يهيضون عظما أنت جابره
فهذا وأمثاله من آثار التوبة المقبولة. فمن لم يجد ذلك في قلبه فليتهم توبته، وليرجع إلى تصحيحها. فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة.! وما أسهلها باللسان والدعوى.! وما عالج الصادق بشيء أشق عليه من التوبة الخالصة الصادقة. ولا حول ولا قوة إلا بالله.