الحلقة التاسعة والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة التاسعة والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
النفاق وأثره على الإيمان، ووجوب الحذر منه
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على إمام الموحدين، وسيد الصادقين، وعظيم المخلصين، سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول النفاق - أعاذنا الله منه- وأثره السيئ على الإيمان. كما سوف نتعرض للتحذير من النفاق، وتنظيف النفس أولا بأول من خبثه وأدرانه، حتى يلقى كل منا ربه سبحانه وتعالى بقلب نظيف من النفاق، سليم من الأمراض، التي تودي بصاحبها إلى الجحيم، ونعوذ بالله وإياكم منه.
ولخطر النفاق والمنافقين، ولكثرة شرهم على الإسلام و المسلمين، فقد أنزل الله سورة باسمهم، تسمى بسورة المنافقون. هذا بخلاف السور المدنية الأخرى التي ذكر المنافقون خلالها، وعلى رأس هذه السور، سورة براءة، التي فضحتهم. قال تعالى: ]إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ . اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ . وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ . وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ[([1])
إذن، فسورة المنافقون، ليست هي السورة الوحيدة، التي فيها ذكر النفاق والمنافقين, ووصف أحوالهم ومكائدهم. فلا تكاد تخلو سورة مدنية من ذكر المنافقين تلميحا، أو تصريحا. ولكن هذه السورة تكاد تكون مقصورة على الحديث عن المنافقين, والإشارة إلى بعض الحوادث والأقوال، التي وقعت منهم ورويت عنهم.
وهي تتضمن حملة عنيفة على أخلاق المنافقين وأكاذيبهم ودسائسهم ومناوراتهم, وما في نفوسهم من البغض والكيد للمسلمين, ومن اللؤم والجبن وانطماس البصائر والقلوب.
وليس في السورة عدا هذا إلا لفتة في نهايتها إلى الذين آمنوا لتحذيرهم من كل ما يلصق بهم صفة من صفات المنافقين , ولو من بعيد . وأدنى درجات النفاق عدم التجرد لله، والغفلة عن ذكره، اشتغالا بالأموال والأولاد, والتقاعس عن البذل في سبيل الله، حتى يأتي اليوم الذي لا ينفع فيه البذل والصدقات.
هذا بخلاف ما ورد في حقهم من أحاديث، قدم فيها الرسول r أوصافا للمنافقين، بحيث إذا توفرت هذه الصفات كلها في شخص، يكون عندئذ منافقا خالصا، وذلك كما قال الرسول r في بعض هذه الأحاديث: [أربع من كن فيه، كان منافقا خالصا. ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق، حتى يدعها. إذا ائتمن خان. وإذا حدث كذب. وإذا عاهد غدر. وإذا خاصم فجر.]  
ومما يجب التحذير منه، اتهام أحد بالنفاق، أو الكفر، وذلك لمجرد ظهور بعض الصفات والعلامات عليه، حيث إنه من الخطورة بمكان، رمي أحد بالكفر، أو بالنفاق، فإن الخطورة على القاذف وليست على المقذوف. فلأن تحافظ على


[1] - سورة المنافقون:1-5
نفسك، خير من أن ترمي غيرك بشيء فيه، أو ليس فيه. فالقاذف خاسر بكل المقاييس، والمقذوف ليس بخاسر. ولأن ينشغل كل منا بعيوبه، خير من أن ينشغل بعيوب الآخرين، فليست مهمتنا أن نحكم على الآخرين، كقضاة، ولكن مهمتنا أن نأخذ بيد الناس إلى الله تعالى، كدعاة. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: إن رسول الله r قال: [من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما.] ومن باب أولى النفاق، لأنه أشد من الكفر. فالحكم على الرجل المسلم بخروجه من دين الإسلام ودخوله في الكفر، أو النفاق، لا يجوز. فلا ينبغي لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، أن يقدم عليه، إلا ببرهان أوضح من شمس النهار.
ومن الجدير بالذكر، أن ألفت النظر إلى أهمية تفقد المسلم لإيمانه، واتهامه لنفسه بالتقصير، وعرضها دائما على كتاب الله وسنة رسوله r ، حتى يعرف موقعه من الإسلام الصحيح، وأين هو من شرع الله تعالى. وأين هو من الصدق والإخلاص مع الله عز وجل. فعن حنظلة الأسيدي، وكان من كتاب النبي r، أنه مر بأبي بكر وهو يبكي، فقال: مالك يا حنظلة؟ قال: نافق حنظلة، يا أبا بكر. نكون عند رسول الله r ، يذكرنا بالنار والجنة، كأنا رأي عين، فإذا رجعنا إلى الأزواج والضيعة، نسينا كثيرا. قال: فو الله إنا لكذلك. انطلق بنا إلى رسول الله r، فانطلقنا، فلما رآه رسول الله r  قال: [ما لك يا حنظلة؟]. قال: نافق حنظلة، يا رسول الله. نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، كأنا رأي عين، فإذا رجعنا عافسنا الأزواج والضيعة ونسينا كثيرا. قال: فقال رسول الله r: [لو تدومون على الحال الذي تقومون بها من عندي لصافحتكم الملائكة في مجالسكم وفي طرقكم وعلى فرشكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، وساعة وساعة.] وكان عمر بن الخطاب، يسأل حذيفة – وقد ائتمنه الرسول r على أسماء المنافقين – فيقول: قل لي بربك، هل عمر منهم.؟
ونعود إلى تاريخ حركة النفاق، التي لم يكن لها وجود في مكة، حيث كان الناس فريقين واضحين أشد الوضوح: فريق الإيمان، وعلى رأسهم رسول الله r . وفريق الشرك والطغيان، ويتقدمهم أبو جهل، وأبو لهب وعتبة، ومن على شاكلتهم. أما في المدينة، فقد ولد فريق ثالث ولادة غير شرعية، فصاروا جسما غريبا في جسد هذه الدولة الجديدة، فظهر هذا اللون من النفاق، والذي يمثل الجبن والخور، ويمثل الانحطاط والدناءة بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى. والعلة في ظهور هذا الصنف الثالث في المدينة، ما يوضحه بعض العلماء فيقول:
"وعلة ظهور تلك الحركة في المدينة واضحة , فالنبي r  والمسلمون الأولون في مكة لم يكونوا من القوة والنفوذ في حالة تستدعي وجود فئة من الناس ترهبهم، أو ترجو خيرهم، فتتملقهم وتتزلف إليهم في الظاهر, وتتآمر عليهم وتكيد لهم وتمكر بهم في الخفاء،كما كان شأن المنافقين بوجه عام. ولقد كان أهل مكة وزعماؤها خاصة، يناوئون النبي جهارا, ويتناولون من استطاعوا من المسلمين بالأذى الشديد, ويقاومون الدعوة بكل وسيلة دون ما تحرز، أو تحفظ; وكانت القوة لهم، حتى اضطر المسلمون إلى الهجرة، فرارا بدينهم ودمهم إلى الحبشة أولا, ثم إلى يثرب; وحتى فتن بعضهم عن دينه بالعنف والإكراه، أو بالإغراء والتهويش; وحتى تزلزل بعضهم وتبرم ونافق المشركين, وحتى مات بعض من ناله الأذى ممن ثبت على دينه نتيجة للتعذيب.
أما في المدينة، فقد كان الأمر مختلفا جدا. فالنبي r استطاع قبل أن يهاجر إليها، أن يكسب أنصارا أقوياء من الأوس والخزرج; ولم يهاجر إلا بعد أن استوثق من موقفه، ولم يبق تقريبا بيت عربي فيها لم يدخله الإسلام. ففي هذه الحالة، لم يكن من الهين، أن يقف الذين لم يؤمنوا به - إما عن جهالة وغباء, وإما عن غيظ وحقد وعناد, لأنهم رأوا في قدوم النبي r حدا لنفوذهم وسلطانهم - موقف الجحود والعداء العلني للنبي والمسلمين من المهاجرين والأنصار; وكان للعصبية في الوقت نفسه، أثر غير قليل في عدم الوقوف هذا الموقف, لأن سواد الأوس والخزرج أصبحوا أنصار النبي r , ومرتبطين به بمواثيق الدفاع والنصرة, إلا أن جلهم قد حسن إسلامهم, وغدوا يرون في النبي رسول الله، وقائدهم الأعلى الواجب الطاعة, ومرشدهم الأعظم الواجب الاتباع, فلم يكن يسع الذين ظلت تغلبهم نزعة الشرك, ويتحكم فيهم مرض القلب والمكابرة والحقد, ويحملهم ذلك على مناوأة النبي r ودعوته ونفوذه - أن يظهروا علنا في نزعتهم وعدائهم، ولم يكن أمامهم، إلا التظاهر بالإسلام، والقيام بأركانه, والتضامن مع قبائلهم. وجعل مكرهم وكيدهم ودسهم ومؤامراتهم بأسلوب المراوغة والخداع والتمويه, وإذا كانوا وقفوا أحيانا مواقف علنية فيها كيد ودس، وعليها طابع من النفاق بارز, فإنما كان هذا منهم في بعض الظروف والأزمات الحادة، التي كانت تحدق بالنبي والمسلمين, والتي كانوا يتخذونها حجة لتلك المواقف بداعي المصلحة والمنطق والاحتياط; ولم يكونوا على كل حال يعترفون بالكفر، أو النفاق،  غير أن نفاقهم وكفرهم ومواقفهم في الكيد والدس والتآمر لم تكن لتخفى على النبي  rوالمخلصين من أصحابه من المهاجرين والأنصار, كما أن المواقف العلنية، التي كانوا يقفونها في فرص الأزمات، كانت مما تزيد كفرهم ونفاقهم فضيحة ومقتا. وقد كانت الآيات القرآنية توجه إليهم كذلك الفضائح المرة بعد المرة, وتدل عليهم بما يفعلون، أو يمكرون, وتدمغهم بشرورهم وخبثهم ومكايدهم, وتحذر النبي r والمسلمين منهم في كل ظرف ومناسبة.
ولقد كانت مواقف المنافقين ومكايدهم بعيدة المدى والأثر على ما تلهم الآيات المدنية، حتى لكأنه نضال قوي, يذكر بما كان من نضال بين النبي r وزعماء مكة, وإن اختلفت الأدوار والنتائج; إذ أن النبي لم يلبث أن أخذ مركزه يتوطد، وقوته تزداد، ودائرة الإسلام تتسع, وصار صاحب سلطان وأمر نافذ وجانب عزيز; وإذ لم يكن المنافقون كتلة متضامنة ذات شخصية خاصة بارزة, وكان ضعفهم وضآلة عددهم وشأنهم يسيران سيرا متناسبا عكسيا مع ما كان من تزايد قوة النبي r واتساع دائرة الإسلام , وتوطد عزته وسلطانه" .
 ويكفيك لأجل أن تشعر بخطورة الدور الذي قام به المنافقون, وخاصة في أوائل العهد، أن تلاحظ أن المنافقين كانوا أقوياء نسبيا بعصبياتهم، التي كانت ما تزال قوية الأثر في نفوس سواد قبائلهم, كما أنهم لم يكونوا مفضوحين فضيحة تامة, ولم يكن الإسلام قد رسخ في هذا السواد رسوخا كافيا; وأن النبي r كان محوطا بالمشركين الجاحدين من كل جانب, وأهل مكة خصومه الألداء, وهم قبلة الجزيرة يتربصون به الدوائر, ويتحينون كل فرصة ووسيلة للقضاء عليه; واليهود في المدينة وحولها قد تنكروا له منذ عهد مبكر وتطيروا به, ثم جاهروه بالكفر والعداء والمكر; ولم يلبث أن انعقد بينهم وبين المنافقين حلف طبيعي على توحيد المسعى, والتضامن في موقف المعارضة والكيد, حتى ليمكن القول: إن المنافقين لم يقووا ويثبتوا ويكن منهم ذلك الأذى الشديد والاستمرار في الكيد والدس، إلا بسبب ما لقوه من اليهود من تعضيد, وما انعقد بينهم من تضامن وتواثق , ولم يضعف شأنهم ويخف خطرهم، إلا بعد أن مكن الله للنبي r  من هؤلاء وأظهره عليهم , وكفاه شرهم.
فهذه هي طبيعة المنافقين، فهم قوم لا يستطيعون العيش في النور، ولكنهم يحبون العيش في الظلام، ولا يستطيعون المواجهة، ويتلونون حسب مصلحتهم، ويلعبون على كل الحبال، ويأكلون على كل الموائد. شعارهم الدائم: اللي يزوج أمي أقوله يا عمي. ومن شعاراتهم: حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس. وإذا كان بلدك بتعبد عجل حش وارمي له. وهكذا شعاراتهم التي تدل على أنهم لا مبدأ لهم ولا عقل ولا رأي. فهؤلاء وأمثالهم كثير، يتبعون كل ناعق، ويسيرون خلف كل ثرثار، وهم إمعات، يتكلمون بلسان غيرهم، ويفكرون بعقل ساداتهم. هذه النوعية من البشر، قال عنهم القرآن: ]الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً . إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً . مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً[([1]) وقال تعالى:  ]إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً[([2])
أيها الحبيب: احرص على نظافة قلبك من النفاق، واغسل قلبك أولا بأول بماء الصدق والإخلاص، وطهره بدموع التوبة، وحافظ على علاقتك بالله أولا، فإن صدقت فيها، وفقت إلى حسن المعاملة مع الخلق، وتلمس كل طريق يقربك من ربك، واحذر كل سبيل يبعدك عنه، واصدق الله يصدقك. جعلني الله وإياك من الصادقين، ورزقني وإياك العمل بما نقول ونكتب، وجمعنا في الفردوس الأعلى يوم القيامة. وأستودعك الذي لا تضيع عنده الودائع.


[1] - ســورة النساء:141-143
[2] -ســورة النساء:145