الحلقة الثانية والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة الثانية والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
أدلة الوحدانية وتهديد المشركين
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبى سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول الوحدانية وأدلتها، وتهديد المشركين، الذين أصيبوا بانفصام في شخصيتهم، حيث إنهم يعترفون بالله خالقا، رازقا، مميتا، ولا يعترفون به محييا، مع أن المنطق والعقل يقضيان، بأن الذي يملك الخلق، هو الذي يملك الرزق، وأن الذي يملك الإماتة ، هو الذي يملك الإحياء. فلماذا يصابون في عقلهم، ويعترفون بما يتناسب مع أهوائهم، ولا يعترفون بما يتعارض مع أمزجتهم. ؟؟
إن الله تعالى، ليعالج قضية الشرك, وآثارها في حياتهم وفي حياة من قبلهم، ويعرض نهاية المشركين من قبل وعاقبتهم التي تشهد بها آثارهم، وذلك من زاوية الرزق والكسب، وهو يواجههم بواقع أمرهم وحقائق حالهم، التي لا يملكون أن يماروا في أن الله وحده هو موجدها; أو التي لا يملكون أن يزعموا أن لآلهتهم المدعاة مشاركة فيها. يواجههم بأن الله هو الذي خلقهم. وأنه هو الذي رزقهم. وأنه هو الذي يميتهم. وأنه هو الذي يحييهم. فأما الخلق، فهم يقرون به. وأما الرزق، فهم لا يملكون أن يزعموا أن آلهتهم المدعاة ترزقهم شيئا. وأما الإماتة، فلا حجة لهم على غير ما يقرره القرآن فيها. بقي الإحياء – البعث - وكانوا يمارون في وقوعه. وهو يسوقه إليهم ضمن هذه المسلمات، ليقرره في وجدانهم بهذه الوسيلة الفريدة, التي تخاطب فطرتهم من وراء الانحراف، الذي أصابهم. وما تملك الفطرة أن تنكر أمر البعث والإعادة.
قال تعالى: ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ . ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ . قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ[ ([1])
إن الخالق لهذا الكون كله من سماواته إلى أراضينه، هو الله تعالى، وهذه قضية لا يجادل فيها أحد، حتى المشركين أنفسهم، فإنهم يقرون بذلك، كما قال القرآن الكريم عنهم: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ[([2]) وقال تعالى: ]وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ[([3])
وإذا كان الله عز وجل هو الخالق، فلا بد أن يكون هو الرازق. ولن يستقيم الأمر إطلاقا، إذا كان الرازق غير الخالق، وذلك لأن الرازق، يجب أن يعرف عدد من سيرزقهم، ويعلم حاجة كل واحد منهم إلى الرزق، ويعلم طبيعة هذا المخلوق، فما يحتاج إليه مخلوق، قد لا يحتاج إليه آخر. فإذا لم يكن الخالق، هو الرازق، فسوف يكون هناك تقصير في وصول الرزق إلى بعض المخلوقات، من حيث نسيان البعض منهم، وعدم العلم بهم، وإذا كان ذلك كذلك، ترتب عليه


[1] - ســورة الروم:40- 42
[2] - ســورة العنكبوت:61
[3] - ســورة العنكبوت:63
هلاك بعض المخلوقات. وهذا محال على الله تعالى، الذي قال: ]وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[([1])  ]وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ[ ([2])
ولقد قالها نبي الله الخليل إبراهيم عليه السلام لقومه، وهو يعرفهم بربه: ]الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ . وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ . وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ . وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ . وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ[([3])
وكما أن الخالق، هو الذي يجب أن يكون هو الرازق، فإنه يجب كذلك أن يكون من يملك الإحياء، هو الذي يملك الإماتة، ومن يملك الإماتة، هو الذي يجب أن يملك الإحياء. ]اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ[ ثم يسألهم: ]هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْء[ٍ  ولا ينتظر جوابا منهم, فهو سؤال للنفي في صورة التقريع غير محتاج إلى جواب، إنما يعقب عليه بتنزيه الله: ]سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[
ومن هنا، فإنه وجب على كل من يظنون أن أرزاقهم بيد المخلوقين، من حكام وغيرهم، وجب عليهم أن يعيدوا النظر في ذلك، فإن أرزاقه بيد خالقهم، وإن آجالهم بيد خالقهم، وذلك مسجل في اللوح المكنون من قبل أن يخلق الله الخلق، وذلك كما ورد في الحديث: عن عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله r وهو الصادق المصدوق: إن أحدكم، يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات، بكتب رزقه. وأجله. وعمله. وشقي، أو سعيد. فو الذي لا إله غيره: إن أحدكم، ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها، إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها. وإن أحدكم، ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها، إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها.([4])  
ثم يكشف الله لهم عن ارتباط أحوال الحياة وأوضاعها بأعمال الناس وكسبهم; وأن فساد قلوب الناس وعقائدهم وأعمالهم، يوقع في الأرض الفساد, ويملؤها برا وبحرا بهذا الفساد، ويجعله مسيطرا على أقدارها, غالبا عليها:] ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ ومعنى ذلك، أنه بان النقص في الزروع والثمار، بسبب المعاصي.
 وقال أبو العالية: من عصى الله في الأرض، فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة. ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود: لَحَد يقام في الأرض، أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحا. والسبب في هذا أن الحدود، إذا أقيمت انكف الناس، أو أكثرهم، أو كثير منهم عن تعاطي المحرمات. وإذا تركت المعاصي،كان سببا في حصول البركات من السماء والأرض، ولهذا إذا نزل عيسى بن مريم عليه السلام في آخر الزمان، يحكم بهذه الشريعة المطهرة في ذلك الوقت من قتل الخنزير وكسر الصليب ووضع الجزية وهو تركها، فلا يقبل إلا الإسلام، أو السيف. فإذا أهلك الله في زمانه الدجال وأتباعه، ويأجوج ومأجوج، قيل للأرض أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام من الناس، ويستظلون


[1] - ســورة هود:6
[2] - ســورة الأنعام:38
[3] - ســورة الشعراء:78 - 82
[4] - متفق عليه.
بقحفها. ويكفي لبن اللقحة الجماعة من الناس. وما ذاك، إلا ببركة تنفيذ شريعة محمد r فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير. ولهذا ثبت في الصحيح: أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب.
وإذا نظرنا إلى واقعنا اليوم، وجدنا أن شريعة الله تعالى قد غابت عن الحياة، فأصبح لا يحكم بها، وصارت العلمانية، هي المسيطرة على الساحة، فكثر بذلك الظلم والطغيان، وانتشر الفساد في البر، فصارت الفواحش ترتكب باسم الحرية الشخصية، وانتشرت الخمور والمخدرات وصارت تباع عيانا جهار، دون حياء ولا خجل من الله تعالى، وتعامل الناس بالربا، حتى أصبح هو الأصل عندهم. كما ظهر الفساد في البحر من خلال العري، الذي يحدث باسم المصايف. فكم من أعراض تنتهك في السفن والبواخر، وكم من أعراض تنتهك على الشواطئ والفنادق تحت مسمى: تشجيع السياحة. فكل ذلك وأكثر منه فساد، يحاربون به الله تعالى، فكانت النتيجة: أن عمت النقم، ورفعت النعم، وأصبح بأس الناس بينهم شديدا، وأصاب الناس القحط والغلاء، ويعيش الناس في حلة من عدم الاستقرار.
ويؤكد على هذا المعنى ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله r فقال: يا معشر المهاجرين خمس خصال، إذا ابتليتم بهن وأعوذ بالله أن تدركوهن. لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها، إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا. ولم ينقصوا المكيال والميزان، إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان عليهم. ولم يمنعوا زكاة أموالهم، إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا. ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله، إلا سلط الله عليهم عدوا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم. وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى ويتخيروا فيما أنزل الله، إلا جعل الله بأسهم بينهم.([1])
فظهور الفساد هكذا واستعلاؤه لا يتم عبثا, ولا يقع مصادفة; إنما هو تدبير الله وسنته: ]لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا[  من الشر والفساد, حينما يكتوون بناره, ويتألمون لما يصيبهم منه: ]لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ[ فيعزمون على مقاومة الفساد, ويرجعون إلى الله وإلى العمل الصالح وإلى المنهج القويم.
ويحذرهم في نهاية هذه الجولة، أن يصيبهم ما أصاب المشركين قبلهم, وهم يعرفون عاقبة الكثيرين منهم, ويرونها في آثارهم حين يسيرون في الأرض, ويمرون بهذه الآثار في الطريق:] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ[ وكانت عاقبتهم ما يرون، حين يسيرون في الأرض; وهي عاقبة لا تشجع أحدا على سلوك ذلك الطريق. ]فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[([2])
وقال تعالى: ]وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ . إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ . ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ . وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ . وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ[([3])
فاعتبروا يا أولي الأبصار، واقرأوا تاريخ السابقين من الأمم، التي مضت، وكيف كانت نهايتها، حين عصت واستكبرت. وليعلم كل من تشغله مناصبه، أن الأيام دول، وأنه لن يدوم منصب. فلو دام لغيرك ما وصل إليك. فاعتبروا وتدبروا وتأملوا. والله المستعان.


[1] - رواه ابن ماجه واللفظ له  والبزار والبيهقي  
[2] - ســورة العنكبوت:40
[3] - ســورة الصافات:133- 138