الحلقة الثانية من التأملات القرآنية


(2) تأملات قرآنية بقلم
د. أحمد عبد الخالق
التقوى
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على سيدنا وحبيبنا رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد
فإن المحور الرئيسي، الذي تدور حوله هذه الحلقة، هي التقوى، حيث إنه لا بد منها في كل مجال يتعلق بالإنسان في دنياه وفي أخراه. فالتقوى تقتضي التشمير والاستعداد لخوض غمار هذه الحياة، وتحدي الباطل، وتخطي كل الصعاب، وهي ثمرة من ثمار هذا التشريع الإسلامي الحنيف. وذلك ما نراه في إجابة أبي بن كعب على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، عندما سأل عمرُ أبيا عن التقوى؟ فقال أبي: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما عملت فيه؟ قال: تشمرت، وحذرت. قال: فذاك التقوى. فالتقوى: فيها جماع الخير كله. وهي وصية الله في الأولين والآخرين، وهى خير ما يستفيده الإنسان، كما قال أبو الدرداء: وقد قيل له: إن أصحابك يقولون: الشعر، وأنت ما حفظ عنك شيء؟ فقال:
يريد المرء أن يؤتى منـاه...... ويـأبى الله إلا مـا أرادا.
يقول المرء: فائدتي ومالي...... وتقوى الله أفضل مااستفادا     
ولقد بدأت بها هذه السورة المباركة، وأعلنتها صراحة: أن القرآن الكريم، والذي هو منهج الحياة لهذه الأمة، هو النور والهداية للمتقين، الذين جاء وصفهم في قوله تعالى:] ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ{3} والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ{4} أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ المفلحون[([1]) فالتقوى في القلب هي التي تؤهله للانتفاع بهذا الكتاب . وهي التي تفتح مغاليق القلب له فيدخل ويؤدي دوره هناك . وهي التي تهيئ لهذا القلب أن يلتقط وأن يتلقى وأن يستجيب .


لا بد لمن يريد أن يجد الهدى في القرآن، أن يجيء إليه بقلب سليم . بقلب خالص . ثم أن يجيء إليه بقلب يخشى ويتوقى , ويحذر أن يكون على ضلالة , أو أن تستهويه ضلالة . . وعندئذ يتفتح القرآن عن أسراره وأنواره , ويسكبها في هذا القلب، الذي جاء إليه متقيا , خائفا , حساسا , مهيأ للتلقي . فتلك التقوى . . حساسية في الضمير , وشفافية في الشعور , وخشية مستمرة , وحذر دائم , وتوق لأشواك الطريق . . طريق الحياة . . الذي تتجاذبه أشواك الرغائب والشهوات , وأشواك المطامع والمطامح , وأشواك المخاوف والهواجس , وأشواك الرجاء الكاذب فيمن لا يملك إجابة رجاء , والخوف الكاذب ممن لا يملك نفعا ولا ضرا . وعشرات غيرها من الأشواك. !
ثم يأتي الأمر هنا بالتقوى بمعنى الحذر، فيقول: ]وَاتَّقُوايَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ[([2]) ، أي احذروا يوما تكون فيه المسؤولية فردية، يتحمل كل فرد منكم فيه نتيجة أعماله في الدنيا.



[1] - ســورة اليقرة: 1-4
[2] - ســورة البقرة:48


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[([1]) وفي هذه الآية، يلفت المولى سبحانه وتعالى أنظارنا إلى أنه يجب على صاحب الدعوة والميثاق، أن يأخذ الأمر بالقوة. ولا بد مع أخذ العهد بقوة وجد واستجماع نفس وتصميم . . لا بد مع هذا كله من تذكر ما فيه , واستشعار حقيقته , والتكيف بهذه الحقيقة , كي لا يكون الأمر كله مجرد حماسة وحمية وقوة . فعهد الله منهج حياة , منهج يستقر في القلب تصورا وشعورا , ويستقر في الحياة وضعا ونظاما , ويستقر في السلوك أدبا وخلقا , وينتهي إلى التقوى والحساسية برقابة الله وخشية المصير.
وهنا نجد أن التقوى قادرة على أن تهيئ النفس للانتفاع بالموعظة، والاعتبار بالعبرة. ](فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ[([2])
وفي آية البر يجمع الله فيها بين أصول الاعتقاد , وتكاليف النفس والمال, وتجعلها كلا، لا يتجزأ , ووحدة لا تنفصم . وتضع على هذا كله عنوانا واحدا هو (البر) أو هو "جماع الخير" أو هو "الإيمان" كما ورد في بعض الأثر. والحق أنها خلاصة كاملة للتصور الإسلامي ولمبادىء المنهج الإسلامي المتكامل، ولا يستقيم بدونها إسلام.
 ]أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ[([3]) أولئك الذين صدقوا ربهم في إسلامهم. صدقوا في إيمانهم واعتقادهم, وصدقوا في ترجمة هذا الإيمان والاعتقاد إلى مدلولاته الواقعة في الحياة. وأولئك هم المتقون الذين يخشون ربهم ويتصلون به , ويؤدون واجبهم له في حساسية وفي إشفاق .فلا يمكن أن يقوم بهذا الدين كله إلا المتقون.
وتتكرر كلمة التقوى، كثمرة من ثمار التشريع الإسلامي، سواء أكان التشريع في الحدود، أم في العبادات، أم في أي مجال من مجالات التشريع؟ فالالتزام بما شرع الله، هو الطريق إلى تقوى الله. ففي مجال الحدود يقول الله تعالى: ]وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[([4]) وفي مجال الصيام يقول تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[([5]) وفي مجال البر والمحافظة على الخصوصيات يقول الله تعالى: ]يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَىوَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[([6])
وفي مجال الحرب ورد العدوان عن النفس، يقول الله تعالى: ]الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[([7]) وفي مجال تطبيق أحكام الحج، يقول الله تعالى: ]وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ[([8]) وفي مجال إظهار ثمار الحج، يقول الله تعالى: ]الْحَجُّ



[1] - ســورة البقرة:63
[2] - ســورة البقرة:66
[3] - ســورة البقرة:177
[4] - ســورة البقرة: 179
[5] - ســورة البقرة:183
[6] - ســورة البقرة:189
[7] - ســورة البقرة:194
[8] - ســورة البقرة: 196
أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ[([1]) ويقول جل شأنه: ]وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوااللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ[([2])
وفي مجال العلاقات الاجتماعية، وما يتعلق بما بين الرجل وأهله، يقول الله تعالى: ]نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ[([3]) وفي مجال الطلاق والفراق، فإن الله تعالى يشدد في أمر التقوى هنا في سورة البقرة، وفي سورة الطلاق، حيث إن الأمر في هذه القضية الخطيرة، إذا لم تحط به تقوى الله تعالى، فإنه سوف يحيطه الظلم، وهو أمر خطير. قال الله تعالى: ]وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[([4]) وفي مجال الرضاعة والحضانة للطفل والإنفاق عليه، فإن الله تعالى يقول: ]وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَوَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[([5])    
وفي مجال الربا، يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بتقواه، ناهيا لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه فقال: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ[([6])
وفي مجال التذكير باليوم الآخر، وردع النفس الأمارة بالسوء، فإن الله تعالى يقول: ]وَاتَّقُوايَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[([7]) وفي مجال المداينة والبيوع والتجارة والرهن وما إلى ذلك من المعاملات. في هذا المجال، الذي يضعف فيه الإنسان أمام مغريات المال والدنيا، فإن الأمر يحتاج من المرء، الكثير من التقوى، والقوة في العزيمة. ففي آخر آية المداينة قال الله تعالى: ]وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[([8])
إن التقوى هي الحارس القابع في أعماق الضمير; يقيمه الإسلام هناك لا يملك القلب فرارا منه، لأنه في الأعماق هناك ! إنه الإسلام . . النظام القوي . . الحلم الندي الممثل في واقع أرضي . . رحمة الله بالبشر . وتكريم الله للإنسان . والخير الذي تشرد عنه البشرية ; ويصدها عنه أعداء الله وأعداء الإنسان ! والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.




[1] - ســورة البقرة:197
[2] - ســورة البقرة: 203
[3] -ســورة اليقرة 223
[4] -ســورة البقرة: 231
[5] - ســورة البقرة: 233
[6] - ســورة البقرة: 278
[7] - ســورة البقرة: 281
[8] - ســورة البقرة: 282