وقبل الوداع كانت حقوق الإنسان
إن الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي كرمه الله تعالى وسخر له كل شيء في الوجود، فقد سخر له الحيوان ، والنبات، والجماد وجعل كل شيء له ومن اجله، ليكون الإنسان عبداً لمولاه يعبده ويطيعه، وينقاد له ويخضع لسلطانه، ويكون خليفةً في الأرض يقوم بعمارتها كما أراد خالقها، ويقوم بإخضاعها لبارئها.
قال تعالى" ولقد كرمنا بنى ادم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً"([1]).
ولقد كان الإنسان قبل الإسلام مهيض الجناح لا يأمن على نفس ولا ماله، ولا عرضه لا يعترف المجتمع له بحقوق وليس له وزن في عالم البشر، فالغلبة في المجتمعات قبل الإسلام كانت للاقوى، والحياة في ذلك الوقت لمن يملكون زمام الأمور . ولا حياة للضعيف في مجتمع الغابة .
وظل الإنسان على هذه الحال حتى حاء الإسلام فأنقذ البشرية من الهلاك الذي كان قد حل بها، فأعاد للإنسان كرامته المفقودة، ورد على الإنسان حريته المسلوبة حتى كانت حجة الوداع التي ودع فيها النبي صلى الله عليه وسلم فيها المسلمون قبل إن يلحق بالرفيق الأعلى، وكانت فرصة ليعلن فيها إلى الدنيا مبادئ وحقوق الإنسان من خلال مائة وثلاثين ألفاً من المسلمين الذين جاءوا من كل حدب وصوب يعلنون ولاءهم لله ورسوله ، ويأخذون مناسكهم عملياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد عرف الإسلام حقوق الإنسان قبل إن تعرف الدنيا، بل قبل إن يعترف العالم بحقوق الإنسان، بل وقبل إن يتشدق الشرق والغرب بتلك الحقوق التي مازالت منصورة على السادة وأصحاب النفوذ من البشر، ويحرم منها الضعفاء، ومن ليس لهم ظهر يحميهم ويمنعهم.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على إعلان تلك المبادئ والحقوق في ذلك الجمع الهائل وقبل إن يودعهم إلى ربه فوقف في عرفات يخطب في الناس : إن الله تعالى قد أتم عليهم النعمة فأكمل لهم الدين. وان الله تعالى ارتضى لهم الإسلام ديناً فليس لأحد أن يشرع، وليس لأحد إن يفتن فلا مجال لمخلوق في وضع قوانين من عند نفسه بعقله القاصر وفهمه القيم. إنما الحكم لله وحده وما على البشرية ألا إن تسمع
وتطيع وما على البشرية إلا إن تنفذ تلك التعليمات، وتلك الأسس والمبادئ التي هى من وحى الله تعالى:"وما ينطق عن الهوى إن هو ألا وحى يوحى علمه شديد القوى"([1]).
ولقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم إن يعيش الإنسان أمنا على نفسه وعرضه وماله وأولاده ورزقه، فلن تستقيم الحياة ألا إذا عاش الإنسان أمنا على حياته وحياة أبنائه. ومن اجل ذلك كانت تلك الحقوق:
أولا: حق الإنسان في الأمن على نفسه وماله وعرضه:
وذلك ما أعلنه الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته الجامعة يوم عرفات حين قال "أيها الناس اسمعوا قولى فإنى لا أدرى لعلى لا ألقاكم بعدما هذا بهذا الموقف ابداً: أيها الناس إن دماءكم وأموالكم حرام إلى إن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا وكحرمة شهركم هذا.
أ- لقد حرم الله دم الإنسان ألا بحقه فليس لأحد إن يعتدى على احدٍ كائناً ماكان مادام لم يرتكب ذنباً ولا جريمة يؤثمه عليها قانون السماء، بل وليس لأحد إن يهدد انساناً ويجعله يعيش غيراً منٍ، وذلك إن الإسلام قد كفل له هذا الحق فقال تعالى:" ولا تقتلوا النفس التي حرم الله ألا بالحق ومن قُتِل مظلوماً فقد جعلنا يوليه سلطانا ً فلا يسرف في القتل انه كان منصوراً([2])).
ولقد أكد الله تعالى على إن المؤمن لا يمكن أبداً إن يقتل مؤمناً ألا إذا كان خطأ وذلك لأن المؤمن لن يكون أبداً مصدر إزعاج، ولا إرهاب بل إن المؤمن مصدر خير وأمن وأمان لكل الدنيا فقال تعالى"وما كان لمؤمن إن يقتل مؤمناً ألا خطئاً ومن قتل مؤمناً خطئاً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله ألا إن يصدقوا فإن كان من قوم عدو لكمن وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله (وكان الله عليما حكيماً) ([3]).
ولقد أعد الله تعالى عذاباً عظيماً لمن يشذ عن هذه القاعدة والتي هى حماية دم المؤمن فمن شذ عن ذلك وتعمد إراقة دماء المؤمنين فإن له عذاباً دنيوياً وعذاباً أخروياً.
أما العذاب الاخروى فقد ذكره الله تعالى في قوله: "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤهم جهنم خالداً فيها وغضب الله عليهم وأعد له عذاباً عظيماً([1])"
وأما العذاب الدنيوى فقد ذكره الله تعالى في قوله"إنما جزء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً إن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفقوا من الأرض ذلك لهم خزىٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم([2])".
ولقد شدد النبي صلى الله عليه وسلم في حماية هذا الحق حتى ينعم الإنسان بالأمن والأمان لدرجة إن زوال الدنيا عند الله تعالى أهون عليه من إراقة دم امرئ مسلمٍ، فقال عليه الصلاة والسلام :"لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم"([3]). وقال ايضاً:" لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَهُم الله في النار"([4]).
ولقد كان الإسلام حريصاً على صيانة دم الإنسان وحمايته حتى ولو يكن مسلماً، فإذا كانت بيننا وبين غير المسلمين عهود ومواثيق فقد أوجب الإسلام علينا حماية دمائهم، ولم يجز لأي إنسان إن يعتدى عليهم والا فأنه يعرض نفسه لوعيد الله تعالى. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم "من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وان ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً"([5]). بل إن هناك ما هو أعظم من ذلك ألا وهو حماية الإنسان من نفسه هو.
فليس للإنسان الحق في قتل نفسه وإراقة دمه حيث انه لم يخلق نفسه ولم يوحد نفسه من العدم وبالتالي فإنه ليس له الحق في وضع النهاية بنفسه، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم الذي يخنق نفسه في النار، والذي يطعن نفسه يطعن نفسه في النار، والذي يقتحم يق تحم في النار([6])"
ب- حرمة الأموال:
وكما جعل الإسلام الحق للإنسان في حماية دمه فقد جعل الإسلام له الحق ايضاً في إن يعيش أمناً على ماله، فالمال عصب الحياة وهو نعمة على الإنسان إن استعمله في مرضاته مطاعاته. ولذا فإنه لايحق لأي إنسان إن يعتدى على مال إنسان أخر، أو يصادره أو يبدده أو يسلبه أو يتحايل على أخذه. قال تعالى"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ألا إن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً" ومن يفعل ذلك عدواناً وظلما فسوف نصليه ناراَ وكان ذلك على الله يسيراً" ويقول كذلك " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا ً من أموال الناس بالإثم وانتم تعلمون"([1]).
ويقول كذلك" ولا تقربوا مال اليتيم ألا بالتي هى أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً([2]).
والآيات التي تحرم على الإنسان التعدى على أموال أخيه الإنسان كثيرة ومنها قوله تعالى"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً([3])"
جـ- حرمة الأعراض:
ومن حق الإنسان إن يعيش أمناًِ على عرضه وشرفه وكرامته ولذلك فأن الإسلام قد حرم الزنا واللواط والسحاق فقال تعالى ناهياً عبارة عن الاقتراب من هذه الفواحش "ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلاً"([4]). ويقول أيضاً "والذين هم لفروجهم حافظون ألا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون"([5]).
ومن اجل إن يعيش الإنسان أمناً على عرضه فقد شرع الإسلام حدَّ الزنا واللواط والقذف وشرع الزواج وغض البصر من الجنسين، وشرع أيضا ً الاستئذان وحرم الخلوة بالأجنبية وحرم الدخول على
المغيبات اللاتى غاب أزواجهن. كل ذلك ليحصل الإنسان على حقه في العيش في هذه الحياة مصان العرض موفور الكرامة أمناً مطمئناً في ظل شرع الله القويم.
ثانياً: حق الإنسان في إن تقوم حياته على العدل:
فالعدل سمة الإسلام الأولى في هذا الوجود وبه فأمته السموات والأرض ومن اجل ذلك فقد حرم الربا حيث أنه الهرم الذي يرتفع الظلم فيه حتى يستحق الفقراء في الأرض، ولذا فإن الرسول الأعظم في يوم عرفات قد أعلن ذلك ليرسى قواعد تسير عليها البشرية الحائرة حتى تهتدى السبيل، وتعرف أين تضع قدميها.
فقال عليه الصلاة والسلام "وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها وان كل ربا موضوع ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُّظَلمون . قضى الله انه لا ربا وان ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله"هـ.
بهذه المبادئ والقيم كان حق الإنسان في هذه الحياة أمنا على نفسه من استغلال الأغنياء له. ولذا فإن الله تعالى قد أحل البيع وحرم الربا وقضى قانون السماء بأن يمحق الربا ويربى الصدقات وأعلن الله العزيز الحكيم الحرب على المرابين المستغلين للفقراء الذين يقيمون سعادتهم على شقاء الآخرين فقال تعالى"يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وذروا ما بقى من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وان تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تُّظَلمون"([1]).
لقد كانت البشرية تعيش حياة الغابة ، فالقوى دائماً هو الغالب والضعيف هو المقهور ولكن الإسلام جاء ليأخذ الحق من الظالم للمظلوم وليسوى بين الناس في الحقوق والواجبات.
جاء الإسلام ليحقه الدماء، وذلك حيث يتحول الحكم الاسلامى إلى القصاص، وينتقل من مفهوم الثأر إلى مفهوم القصاص، ولنتقل من العشيرة إلى الدولة.
والامة التي تصان أرواحها ودماؤها لهى أمة متقدمة جداً في مضمار الحضارة والمدنية، وذلك أنه لن تستطيع أمة أن تحيا حياةً سعيدة إلا إذا حصلت على حقها من الأمن والأمان.
رابعاً: حق الرجل على المرأة وحق المرأة على الرجل:
لقد جعل الإسلام لكل من الرجل والمرأة حقوقاً وواجبات نحو الاخر، وذلك لئلا يظلم أحدهما الاخر ومن أجل إن يعيش كلٌ منهما أمناً سعيداً يشعران بالمودة والرحمة ويهنئان بالسعادة والألفة ولقد كان لزاماًِ إن يعرف كلٌ منهما حدوده التي يقف عندها لئلا يتعداها إلى غيرها.
ولقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم تلك الحقوق وهو يودع العالم أجمع فقال"فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهم ألا يوطئن فرشكم أحد تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة. فأن فعلن فإن الله تحد إذن لكم إن تهجروهن في المضاجع ، وتضربوهن ضرباً غير مبرح فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فأنهن عندكم عوانٍ لا يملكن لأنفسهم شيئاً، وأنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمات الله فاعقلوا أيها الناس قولى فإنى قد بلغت" هـ.
إن من خلال حق الرجل على المرأة يتبلور النظام الاجتماعى في الإسلام، فالمرأة تبع للرجل، والقوامة للرجل على المرأة، والمفهوم الاسلامى للأسرة هو إن تكون المرأة وفقاً على الرجل ولا تأتى بالفاحشة البينة، وعند الفاحشة فللرجل قسْر المرأة وقصرها عليه ولو بالضرب غير المبرح والهجر في المضجع والموعظة الحسنة.
والمرأة حين حسبت نفسها على الرجل فإن الإسلام قد أوجب عليه رزقها وكسوتها بالمعروف، وعليه إن يحسن معاملتها وعشرتها فهي في نظر الإسلام أمانة الله عند الرجل وبكلمات الله استحل الرجال فروجهن . فاستوصوا بهن خيراً.
خامساً: حق الإنسان في إن يحكم بقانون الخالق:
إن من حق الإنسان إن يحكم بقانون السماء، وذلك لأن الذي قرر هذا الحق للإنسان هو خالقه سبحانه وتعالى. فقال تعالى مخاطباً رسوله صلى الله عليه وسلم "أنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً"([1]).
وقال كذلك "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً"([2]).
ولقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك على الدنيا حتى لا يكون لأحد حجة في الحيلولة بين السلم وقانونه فقال:"وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً أمراً بيناً، كتاب الله وسنة نبيه".
إن الأمة المسلمة ينبغي إن ينطلق دستورها من مصدرين أساسيين عليها مناط التشريع. كتاب الله وسنة رسوله فمن أخذ بهما فأنه لن يضل ولن يهزم ابداً.
ومن هنا فأنه لا يجوز لأي قوة أن تحول بين الأمة وروحها "فالقرآن الكريم روح هذه الأمة وحياتها قال تعالى"وكذلك أوحينا إليك روحاًِ من أمرنا ما كنت تدرى ما الكتاب ولا الإيمان منكن جعلناه نوارً نهدى به من نشاء من عبادنا وانك لتهتدى إلى صراط مستقيم صراط اله الذي له ما في المسوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور"([3]).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم "مازلتم منصورين مادمتم متمسكين بكتاب الله وسنتى".
سادساًِ: حق المسلم على أخيه المسلم:
لقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحق على الدنيا ليعرف المسلمون الرابطة التي تربط بينهم فهي ليست من روابط الدم ولا العشيرة ولكنها رابطة العقيدة والتي هى أقوى رباط وأشرف وأطهر رباط على وجه الأرض لو إن المسلمين يعرفون قدره ومنزلته ما وحدنا فقيراً ولا محتاجاً ولا مظلوماً، وما وجدنا تفرقاً وتناحراً، وما تحاسد المسلمون ولا تباغضوا ولا تدابروا.
لقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم من المسلمين إن يعقلوا قوله قبل إن يوصيهم بالتآلف، وقبل أن يعملهم بما بينهم من روابط عقائدية فقال أيها الناس: اسمعوا قولى واعقلوه، تعلمن إن كل مسلم اخ للمسلم، وان المسلمين أخوة فلا يحل لامرئ ألا ما أعطاه عن طيب نفسٍ منه فلا تَّظلمُنً أنفسكم" اللهم هل بلغت"هـ.
وحيث يتم تبليغ تلك الحقوق وإعلان هذه المبادئ والمواثيق، وقد أعلنت في اجتماع يضم مائة وثلاثين ألفاً لابد لهؤلاء إن يحملوا الأمانة إلى الأرض كلها والى الأجيال فيما بعد، ومن أجل هذا كان الخطاب على الملأ اللهم هل بلغت فتجيب جماهير الأمة اللهم نعم فيرفع لرب السماء قائلاً اللهم اشهد" اللهم قد بلغت اللهم فاشهد".
بقلم / أحمد محمد عبد الخالق