الحلقة السادسة والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة السادسة والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
الغفلة عن ذكر الله في الدنيا، حسرة وندامة يوم القيامة
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على سيدنا محمد r سيد الذاكرين، وإمام الشاكرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأوابين، ومن سار على نهجهم واتبع هديهم إلى يوم الدين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول الذكر، وأهميته للمسلم في الدنيا والآخرة، وأن الغفلة عنه في الدنيا، تورث الحسرة والندامة في الآخرة، حيث يقول الله تعالى: ]وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ . وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ . حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ . وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ[([1])
فالذكر منزلته رفيعة، به يذكر الله الذاكرين، وبه تطمئن القلوب. ]الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[([2]) ولقد أبدع ابن القيم في وصف الذكر فقال: "والذكر منزلة القوم الكبرى، التي منها يتزودون. وفيها يتجرون. وإليها دائما يترددون. و الذكر منشور الولاية، الذي من أعطيه اتصل. ومن منعه عزل. وهو قوت قلوب القوم، الذي متى فارقها صارت الأجساد لها قبورا. وعمارة ديارهم التى، إذا تعطلت عنه صارت بورا. وهو سلاحهم الذي يقاتلون به قطاع الطريق. وماؤهم الذي يطفئون به التهاب الطريق. ودواء أسقامهم الذي متى فارقهم انتكست منهم القلوب. والسبب الواصل والعلاقة التي كانت بينهم وبين علام الغيوب.
إذا مرضنا تداوينا بذكركم        فنترك الذكر أحيانا فننتكس.
 به يستدفعون الآفات. ويستكشفون الكربات. وتهون عليهم به المصيبات. إذا أظلمهم البلاء فإليه ملجؤهم. وإذا نزلت بهم النوازل فإليه مفزعهم. فهو رياض جنتهم التي فيها يتقبلون. ورءوس أموال سعادتهم التي بها يتجرون. يدع القلب الحزين ضاحكا مسرورا. ويوصل الذاكر إلى المذكور، بل يدع الذاكر مذكورا. وفي كل جارحة من الجوارح عبودية مؤقتة، و الذكر عبودية القلب واللسان وهي غير مؤقتة، بل هم يؤمرون بذكر معبودهم ومحبوبهم في كل حال: قياما وقعودا وعلى جنوبهم، فكما أن الجنة قيعان وهو غراسها، فكذلك القلوب بور وخراب وهو عمارتها وأساسها. وهو جلاء القلوب وصقالها ودواؤها، إذا غشيها اعتلالها. وكلما ازداد الذاكر في ذكره استغراقا: ازداد المذكور محبة إلى لقائه واشتياقا. وإذا واطأ في ذكره قلبه للسانه: نسي في جنب ذكره كل شيء، وحفظ الله عليه كل شيء، وكان له عوضا من كل شيء.
 به يزول الوقر عن الأسماع. والبكم عن الألسن. وتنقشع الظلمة عن الأبصار. زين الله به ألسنة الذاكرين، كما زين بالنور أبصار الناظرين. فاللسان الغافل: كالعين العمياء، والأذن الصماء، واليد الشلاء. وهو باب الله الأعظم المفتوح بينه وبين عبده، ما لم يغلقه العبد بغفلته. قال الحسن البصري رحمه الله: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة، وفي الذكر، وقراءة القرآن، فإن وجدتم، وإلا فاعلموا أن الباب مغلق.


[1] - ســورة الزخرف:36- 39
[2] - ســورة  الرعد: 28
 وبالذكر: يصرع العبد الشيطانَ، كما يصرع الشيطانُ أهل الغفلة والنسيان. قال بعض السلف: إذا تمكن الذكر من القلب، فإن دنا منه الشيطان، صرعه كما يصرع الإنسان، إذا دنا منه الشيطان، فيجتمع عليه الشياطين فيقولون: ما لهذا فيقال: قد مسه الإنسي. وهو روح الأعمال الصالحة فإذا خلا العمل عن الذكر، كان كالجسد الذي لا روح فيه." أهـ
ونعود إلى آثار الغفلة الخطيرة، التي تحدثت عنها الآيات في قوله تعالى: ]ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين . وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون . حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين فبئس القرين . ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون[. .
والعَشَى كلال البصر عن الرؤية, وغالباً ما يكون عند مواجهة الضوء الساطع، الذي لا تملك العين، أن تحدق فيه; أو عند دخول الظلام وكلال العين الضعيفة عن التبين خلاله. وقد يكون ذلك لمرض خاص. والمقصود هنا هو، العماية والإعراض عن تذكر الرحمن، واستشعار وجوده ورقابته في الضمير.
]ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيّض له شيطاناً فهو له قرين[ .
وقد قضت مشيئة الله في خلقة الإنسان ذلك. واقتضت أنه حين يغفل قلبه عن ذكر الله، يجد الشيطان طريقه إليه, فيلزمه, ويصبح له قرين سوء، يوسوس له, ويزين له السوء. وهذا الشرط وجوابه هنا في الآية، يعبران عن هذه المشيئة الكلية الثابتة, التي تتحقق معها النتيجة بمجرد تحقق السبب, كما قضاه الله في علمه. ووظيفة قرناء السوء من الشياطين، أن يصدوا قرناءهم عن سبيل الله, بينما هؤلاء يحسبون أنهم مهتدون:] وإنهم ليصدونهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون[.
وهذا أسوأ ما يصنعه قرين بقرينه. أن يصده عن السبيل الواحدة القاصدة; ثم لا يدعه يفيق, أو يتبين الضلال فيثوب; إنما يوهمه، أنه سائر في الطريق القاصد القويم ! حتى يصطدم بالمصير الأليم.
والتعبير بالفعل المضارع: ]ليصدونهم[. .]ويحسبون[. . يصور أن العملية قائمة مستمرة معروضة للأنظار; يراها الآخرون, ولا يراها الضالون السائرون إلى الفخ، وهم لا يشعرون.
ثم تفاجئهم النهاية وهم سادرون:] حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين  فبئس القرين[!
وهكذا ننتقل في ومضة من هذه الدنيا إلى الآخرة. ويطوى شريط الحياة السادرة, ويصل العمي ]الذين يعشون عن ذكر الرحمن[ إلى نهاية المطاف فجأة على غير انتظار. هنا يفيقون كما يفيق المخمور, ويفتحون أعينهم بعد العَشَى والكلال; وينظر الواحد منهم إلى قرين السوء، الذي زين له الضلال, وأوهمه أنه الهدى. وقاده في طريق الهلاك, وهو يلوح له بالسلامة! ينظر إليه في حنق يقول:  ]يا ليت بيني وبينك بعد المشرقين[! يا ليته لم يكن بيننا لقاء. على هذا البعد السحيق !
 ويعقب القرآن على حكاية قول القرين الهالك للقرين بقوله:]فبئس القرين[! ونسمع كلمة التيئيس الساحقة لهذا وذاك عند إسدال الستار على الجميع:] ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون[! فالعذاب كامل لا تخففه الشركة, ولا يتقاسمه الشركاء فيهون. !

إن الغفلة هنا ليست غفلة لسان فحسب، ولكنها غفلة قلب، وغفلة جوارح، وغفلة مجتمع، وغفلة نظام، لأنه البعد الكامل عن المنهج القويم، الذي أدى إلى قسوة القلوب، فأصبحت لا تلين إلى ذكر الله ولا تخضع لسلطانه، أصبحت لا تحق الحق ولا تبطل الباطل، أصبحت تضيق ذرعا عند ذكر الله. ]أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ . اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ[([1]) ويقول جل ذكره: ]وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ[([2])
لذلك، فإني ألفت النظر إلى أهمية ذكر الحال، وذكر المقال. فذكر الحال، إذا شوهد صاحبه قرأت فيه أذكار الحبيب محمد r ، أي أنك تراه موافقا لما وجهنا إليه الرسول r وهذا أصدق الذكر. وأما ذكر المقال، أن تراه ملتزما بالوارد عن رسول الله r في كل أمر من الأمور. فصاحب هذه الأذكار، يتبع أثر الرسول r فيعمل ما كان يعمله الحبيب، ويترك ما كان يتركه الحبيب، فهو على هدي الرسول r يسير. ومن كان كذلك، كان معصوما من الشيطان، حبيبا للرحمن، مستحقا للرضوان. ومن ليس كذلك، صار قرين الشيطان، عدوا للرحمن. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله r : يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ خير منهم. وإن تقرب إلي شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت إليه باعا. وإن أتاني يمشي، أتيته هرولة.([3])
وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله r: [ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير من إنفاق الذهب والورق،  وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم.؟ قالوا: بلى. قال: ذكر الله. قال معاذ بن جبل: ما شيء أنجى من عذاب الله من ذكر الله.([4]) 
فالذكر كما يقول ابن القيم: هو التلخص من الغفلة والنسيان. والفرق بين الغفلة والنسيان: أن الغفلة، ترك باختيار الغافل. و النسيان، ترك بغير اختياره. ولهذا قال تعالى: ]وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ[([5]) ولم يقل: ولا تكن من الناسيين، فإن النسيان لا يدخل تحت التكليف، فلا ينهى عنه.
درجات الذكر:
والذكر على ثلاث درجات:
 الدرجة الأولى: الذكر الظاهر من ثناء، أو دعاء، أو رعاية. يريد بالظاهر: الجاري على اللسان، المطابق للقلب، لا مجرد الذكر اللساني. فإن القوم لا يعتدون به. فأما ذكر الثناء: فنحو: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله


[1] - ســورة الزمر:22 ،23
[2] - ســورة الزمر:45
[3] - رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه  
[4] - رواه أحمد بإسناد حسن وابن أبي الدنيا والترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي وقال الحاكم صحيح الإسناد  
[5] - ســورة الأعراف:205
أكبر. وأما ذكر الدعاء فنحو: ]رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[([1]) و يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث، ونحو ذلك. وأما ذكر الرعاية: فمثل قول الذاكر: الله معي، والله ناظر إلي، الله شاهدي، ونحو ذلك مما يستعمل لتقوية الحضور مع الله، وفيه رعاية لمصلحة القلب، ولحفظ الأدب مع الله، والتحرز من الغفلة، والاعتصام من الشيطان والنفس. والأذكار النبوية تجمع الأنواع الثلاثة، فإنها متضمنة للثناء على الله، والتعرض للدعاء والسؤال، والتصريح به، كما في الحديث: أفضل الدعاء الحمد لله. والأذكار النبوية متضمنة أيضا لكمال الرعاية ومصلحة القلب والتحرز من الغفلات والاعتصام من الوساوس والشيطان .
  الدرجة الثانية: الذكر الخفي، وهو الخلاص من القيود، والبقاء مع الشهود، ولزوم المسامرة. يريد بالخفي ههنا: الذكر بمجرد القلب، بما يعرض له من الواردات. وهذا ثمرة الذكر الأول. ويريد بالخلاص من القيود: التخلص من الغفلة والنسيان، والحجب الحائلة بين القلب وبين الرب سبحانه. والبقاء مع الشهود: ملازمة الحضور مع المذكور، ومشاهدة القلب له، حتى كأنه يراه. ولزوم المسامرة: هي لزوم مناجاة القلب لربه، تملقا تارة، وتضرعا تارة، وثناء تارة، واستعظاما تارة، وغير ذلك من أنواع المناجاة بالسر والقلب. وهذا شأن كل محب وحبيبه كما قيل:
 إذا ما خلونا والرقيب بمجلس        فنحن سكوت والهوى يتكلم
 الدرجة الثالثة: الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق إياك، والتخلص من شهود ذكرك. ومعرفة افتراء الذاكر في بقائه مع الذكر. إنما سمي هذا الذكر في هذه الدرجة حقيقيا، لأنه منسوب إلى الرب تعالى. وأما نسبة الذكر للعبد، فليست حقيقية. فذكر الله لعبده هو الذكر الحقيقي، وهو شهود ذكر الحق عبده، وأنه ذكره فيمن اختصه وأهله للقرب منه ولذكره، فجعله ذاكرا له. ففي الحقيقة: هو الذاكر لنفسه، بأن جعل عبده ذاكرا له، وأهله لذكره، أي جعله أهلا  لأن يذكره، فلولا أن وفقه الله لذكره، لما كان ذاكرا له.
أسأل الله تعالى أن يجعلنا من الذاكرين الشاكرين، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.




[1] - ســورة الأعراف:23