الحلقة الحادية والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة الحادية والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
نصرة الله للمستضعفين من خلال قصة موسى مع فرعون.
حمدا لله تعالى. وصلاة وسلاما على حبيبنا وشفيعنا سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد.


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول قصة موسى عليه السلام، مع عدو الله فرعون، واستعلائه وجبروته، وإذلاله لبني إسرائيل. وتبين القصة: كيف تربى موسى؟ وفي بيت من؟، ومن الذي اهتم بتربيته؟ وكيف تغلبت قدرة الله وإرادته على جبروت فرعون وكبريائه؟. ويتبين لنا من خلال هذه القصة: كيف ينصر الله المستضعفين؟ وكيف يمكن لهم في الأرض، حتى يكونوا أئمة الهدى، وحتى تكون لهم القيادة والريادة، وحتى تعلو راية الحق، وتكون كلمة الله دائما هي العليا.
إن الله تعالى، إذا أراد شيئا، هيأ له الأسباب، التي لا تخطر على بال أحد. فالكون كله بيده، وهو خالقه وبارئه. وإذا أراد شيئا، قال له: كن فيكون. ]إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[([1])  
وتبدأ القصة بوصف فرعون، من حيث الطغيان والظلم، حتى نكون على يقين بأن قدرة الله تعالى. ليس لها حدود، وأنه غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. ]إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[([2]) .
لقد أحس الطاغية أن هناك خطرا على عرشه وملكه من وجود بني إسرائيل في مصر; ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها، وهم جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف, فقد يصبحون إلبا عليه مع جيرانه، الذين كانت تقوم بينهم وبين الفراعنة الحروب, فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي يتوقعه من هذه الطائفة التي لا تعبده ولا تعتقد بألوهيته – كما هو حال الطغاة في كل زمان - , تلك هي تسخيرهم في الشاق الخطر من الأعمال, واستذلالهم وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله، تذبيح الذكور من أطفالهم عند ولادتهم, واستبقاء الإناث، كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك يضعف قوتهم بنقص عدد الذكور، وزيادة عدد الإناث, فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب. لكِ الله يا مصر. !!!
وروي أنه وكل بالحوامل مِن نسائهم قوابل مولدات، يخبرنه بمواليد بني إسرائيل, ليبادر بذبح الذكور, فور ولادتهم، حسب خطته الجهنمية الخبيثة, التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء لا ذنب لهم ولا خطيئة.
هذه هي الظروف التي تجري فيها قصة موسى - عليه السلام - عند ولادته , كما وردت في هذه السورة، ولكن الله يريد غير ما يريد فرعون; ويقدر غير ما يقدر الطاغية. والطغاة البغاة تخدعهم قوتهم وسطوتهم وحيلتهم, فينسون إرادة الله وتقديره; ويحسبون أنهم يختارون لأنفسهم ما يحبون, ويختارون لأعدائهم ما يشاءون. ويظنون أنهم على هذا وذاك قادرون. والله يعلن هنا إرادته هو, ويكشف عن تقديره هو; ويتحدى فرعون وهامان وجنودهما، بأن احتياطهم وحذرهم لن يجديهم


[1] - ســورة يس:82 ، 83
[2] - ســورة القصص:4
فتيلا.  قال تعالى: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ . وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[([1])
فهؤلاء المستضعفون الذين يتصرف الطاغية في شأنهم، كما يريد له هواه البشع النكير، فيذبح أبناءهم، ويستحيي نساءهم, ويسومهم سوء العذاب والنكال. وهو مع ذلك، يحذرهم ويخافهم على نفسه وملكه; فيبث عليهم العيون والأرصاد, ويتعقب نسلهم من الذكور، فيسلمهم إلى لجزار! هؤلاء المستضعفون، يريد الله أن يمن عليهم بهباته من غير تحديد; وأن يجعلهم أئمة وقادة، لا عبيدا ولا تابعين; وأن يورثهم الأرض المباركة، التي أعطاهم إياها عندما استحقوها بعد ذلك بالإيمان والصلاح. وأن يمكن لهم فيها فيجعلهم أقوياء راسخي الأقدام مطمئنين. وأن يحقق ما يحذره فرعون وهامان وجنودهما، وما يتخذون الحيطة دونه, وهم لا يشعرون.!
وهكذا يعلن واقع الحال, وما هو مقدر في المآل، لتقف القوتان وجها لوجه: قوة فرعون المنتفشة المنتفخة، التي تبدو للناس قادرة على الكثير. وقوة الله الحقيقية الهائلة، التي تتهاوى دونها القوى الظاهرية الهزيلة، التي ترهب الناس.
وتأمل معي الأفعال في قول الله تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين، ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون. فهذه الأفعال كلها أفعال مضارعة. والفعل المضارع يفيد التجدد والحدوث والاستمرار. ومعنى ذلك، أن الله تعالى، لن يتخلى عن المستضعفين، فنصرتهم دائمة، حتى يرث الله الأرض ومن عليها. وعلى المستضعفين في الأرض، أن يطمئنوا إلى أن الله تعالى لن يخذلهم، ما داموا قائمين على أمره، وعليه أن يثقوا في نصر الله تعالى، ولكن في الوقت الذي يريده هو سبحانه، لا في الوقت الذي يريدونه هم. ولتعلم الدنيا أن سنن الله غلابة، وأنه لن تستطيع قوة أن تقف في وجه الجبار جل في علاه. ولكن كيف؟ ومتى؟ وهل هذا ممكن؟
أقول: إذا تعلق الأمر بالله وبقدرته وإرادته، فليس لك أن تسأل هذه الأسئلة. فلا تسل كيف، فالله خالق الأسباب. ولا تقل متى، فالله يعلم الأزمان، وأي الأزمنة يكون الأصلح للإنسان. ولا تسل عن مدى إمكانية ذلك بالنسبة لله تعالى، فهو الذي بيده ملكوت كل شيء. وتأمل معي كيف نجى موسى من فرعون. إنه لأمر أعجب من العجب.! إنه ينجيه من فرعون بالإلقاء في البحر، الذي هو من جنود الله تعالى. فينجيه في صغره بالإلقاء في البحر، وينجيه في نهاية المعركة، التي كانت بينه وبين فرعون أيضا بالبحر. ]فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ . وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ . وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ . (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ[([2])
إذاً، كيف حفظ الله موسى؟ وهنا يظهر التحدي وتنكشف يد القدرة، تعمل سافرة بلا ستار. لقد ولد موسى في ظل تلك الأوضاع القاسية الخطيرة. ولد والخطر محدق به, والموت يتلفت عليه, والشفرة مشرعة على عنقه, تهم أن تحتز رأسه .
وها هي ذي أمه حائرة به, خائفة عليه, تخشى أن يصل نبؤه إلى الجلادين, وترجف أن تتناول عنقه السكين. ها هي ذي بطفلها الصغير في قلب المخافة, عاجزة عن حمايته, عاجزة عن إخفائه, عاجزة عن حجز صوته الفطري أن ينم عليه; عاجزة عن تلقينه حيلة، أو وسيلة. ها هي ذي وحدها ضعيفة عاجزة مسكينة.


[1] - ســورة القصص:5، 6
[2] - ســورة الشعراء:63- 66
وهنا تتدخل يد القدرة , فتتصل بالأم الوجلة القلقة المذعورة, وتلقي في روعها كيف تعمل؟، وتوحي إليها بالتصرف. تأمل معي قوله تعالى: ]وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ . وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[([1])
يا لله ! يا للقدرة ! يا أم موسى أرضعيه. فإذا خفت عليه، وهو في حضنك. وهو في رعايتك. إذا خفت عليه وفي فمه ثديك, وهو تحت عينيك. إذا خفت عليه ]فألقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني[ إنه هنا في اليم، في رعاية اليد، التي لا أمن، إلا في جوارها، اليد التي لا خوف معها. اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها. اليد التي تجعل النار بردا وسلاما, وتجعل البحر ملجأ ومناما. اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار ولا جبابرة الأرض جميعا أن يدنوا من حماها الآمن العزيز الجناب.] إنا رادوه إليكِ[.فلا خوف على حياته، ولا حزن على بعده ]وجاعلوه من المرسلين[  وتلك بشارة الغد, ووعد الله أصدق القائلين.
إنه عندما يعرض هذا الأمر على العقول، فلن يقره عقل.!! فكيف أحافظ على ولدي، أو على نفسي بالإلقاء في البحر؟ أيعقل هذا؟ !! لا يعقل، إذا كان الترتيب ترتيبك أنت. أما إذا كان الترتيب ترتيب الله عز وجل، فدع القدرة تعمل كيف تشاء. وليس هذا بغريب ولا يستدعي العجب. فالبحر خلق من خلقه، وأمره بيده هو سبحانه وتعالى، فإن شاء جمد الماء فجعله كالطود العظيم، وإن شاء جعله مهاد للطفل اليتيم، وإن شاء أهلك به الطاغية اللئيم. فليس على شيء مستحيل، ولن يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
ولماذا العجب، أيها الحبيب. فمن ذا الذي جعل النار بردا وسلاما على إبراهيم؟ أليست النار محرقة؟ فمن ذا الذي سلبها خاصية الإحراق؟ إنه هو سبحانه، الذي سلب البحر خاصية الإغراق.
إن الأمر ينتهي بتحقيق وعد الله تعالى لأم موسى، فكانت هي مرضعته وحاضنته، فتربى في حضنها، ورضع من لبنها، وأخذت الأجرة على ذلك، وأقر الله عينها بوليدها. ولقد كان موسى موضع اهتمام الجميع في القصر، وعلى رأسهم سيدة القصر: امرأة فرعون. ]وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ[
أيها المستضعفون، اصبروا، فلا بد من تحقيق وعد الله تعالى، واثبتوا على الحق، واحذروا الفتن، فإنها أظلم من الليل. والجأوا إلى الله تعالى، حتى ينزل عليكم الصبر والسكينة، وكونوا على يقين بأن نصر الله قادم، وأن العاقبة للمتقين. وتأمل معي قوله تعالى في آخر سورة القصص: ]تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ[([2])




[1] - ســورة القصص:7- 9
[2] - ســورة القصص:83