الحلقة
التاسعة عشر من التأملات القرآنية
بقلم
د. أحمد عبد الخالق
المنهج
الوقائي للمجتمع المسلم في ســورة النور
حمدا لله تعالى،
وصلاة وسلاما على سيدنا وحبيبنا رسول الله r
وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه، واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد
فإن تأملاتنا في هذه
الحلقة، سوف تكون حول المنهج الوقائي للفرد المسلم، من الوقوع في الفاحشة، وذلك من
خلال سورة النور، والتي يذكر فيها
النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح، ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها
بناء هذه السورة. وهي آداب وأخلاق نفسية وعائلية وجماعية, تنير القلب, وتنير
الحياة, ويربطها بذلك النور الكوني الشامل أنها نور في الأرواح, وإشراق في القلوب,
وشفافية في الضمائر، مستمدة كلها من
ذلك النور الكبير.
وهذه السورة كلها تدور حول محور واحد، هو محور التربية، التي تشتد في
وسائلها إلى درجة الحدود. وترق إلى درجة اللمسات الوجدانية الرفيقة, التي
تصل القلب بنور الله وبآياته المبثوثة في تضاعيف الكون وثنايا الحياة. والهدف واحد في
الشدة واللين. هو تربية الضمائر, واستجاشة المشاعر; ورفع المقاييس
الأخلاقية للحياة, حتى تشف وترف، وتتصل بنور الله. وتتداخل الآداب النفسية الفردية, وآداب البيت والأسرة، وآداب الجماعة والقيادة. بوصفها نابعة كلها من معين واحد،
هو العقيدة في الله, متصلة كلها بنور واحد هو نور الله. وهي في صميمها نور وشفافية,
وإشراق وطهارة. تربية عناصرها من مصدر النور الأول في السماوات والأرض. نور
الله الذي أشرقت به الظلمات. في السماوات والأرض, والقلوب والضمائر, والنفوس والأرواح.
ويبدأ المنهج الوقائي، بالتحذير من إشاعة الفاحشة
بين الناس، حيث إن الذين يشيعون الفاحشة بين الناس، إنما يعملون على زعزعة ثقة الجماعة المؤمنة بالخير والعفة
والنظافة; ويعملون على إزالة التحرج من ارتكاب الفاحشة, وذلك عن طريق الإيحاء بأن الفاحشة
شائعة فيها. بذلك تشيع الفاحشة في النفوس, لتشيع بعد ذلك في الواقع.
من أجل هذا،
فإنه سبحانه وتعالى، قد وصف الذين
يرمون المحصنات، بأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وتوعدهم بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وذلك جانب من منهج التربية, وإجراء من إجراءات الوقاية. يقوم
على خبرة بالنفس البشرية، ومعرفة بطريقة تكيف مشاعرها واتجاهاتها، ومن ثم يعقب
بقوله: ]والله يعلم وأنتم لا تعلمون[ قال تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[([1])
والأمر الثاني في المنهج الوقائي، عدم اتباع المؤمنين لخطوات
الشيطان، والحذر من استدراج الشيطان إياهم، فإن الإنسان لضعيف, معرض للنزعات, عرضة
للتلوث. إلا أن يدركه فضل الله ورحمته. حين يتجه إلى الله , ويسير على نهجه. قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ
يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ
وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي
مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[([2])
فالشيطان يستدرج المسلم، كي ينقله من معصية أخف إلى معصية أشد، حتى يرتكب
الفاحشة، وهو في ذلك، إنما يهون عليه الأمر، ويزين له الفاحشة، حتى يراها، كما
يرغب فتشتهيها نفسه، فيقع فيها، دون وعي منه، ولا إدراك لحجم الجرم الذي وقع فيه.
وقد يستمرئ المعصية فيصر عليها، وقد يتدارك نفسه فيرجع إلى الله تعالى. قال تعالى: ]أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ
يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ
حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ[([1])
والأمر الثالث في المنهج
الوقائي: حسن اختيار الزوج للزوجة، وحسن اختيار الزوجة للزوج، حيث إن كلا منهما،
يجب أن يعرف مع من يقترن، ومع من سوف يعيش، وفي أي وعاء سيضع نطفته؟ لا بد أن يعرف
من التي سوف تكون أما لأبنائه، ومربية لهم.؟ ولا بد أن تعرف من ذا الذي سوف يكون
قيما عليها، من ذا الذي، سوف يقودها ويملك
أمرها.؟. وترى هذا الأمر واضحا في قوله تعالى: ]الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ
وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ
مُبَرَّأُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ[([2])
فالخبيثات لا يرغبن إلا فيمن هم على شاكلتهن من الخبيثين. والخبيثون لا
يرغبون إلا فيمن هن على شاكلتهم من الخبيثات. فالذي تعود على القاذورات، لا يشعر
بنتن ريحها، ولا بقذارة طعمها، ويأنف إن قدم له شيء طيب، لأنه لم يتعود عليه.
أما الطيبات، فهن لا يرغبن إلا في الطيبين، والطيبون لا يرغبون إلا في
الطيبات. فهذا هو التآلف الطبيعي. ولا يعقل أبدا لمثل هذا الصنف من البشر، أن
يستطعم شيئا خبيثا. حيث إنه يأنف من كل شيء عف عليه الذباب، أو ولغت فيه الكلاب.
فحسن الاختيار، أمر في غاية الأهمية، للوقاية من الفاحشة والوقوع فيها.
والأمر الرابع في المنهج
الوقائي هو: تطبيق آداب الاستئذان، التي جاءت بها الآيات من سورة النور: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ . فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا
تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا
هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ . لَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ
لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ[([3])
إن الإسلام لا يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه
النظيف, إنما يعتمد قبل كل شيء على الوقاية. وهو لا يحارب الدوافع الفطرية، ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة.
والفكرة السائدة في منهج التربية الإسلامية في هذه الناحية,
هي تضييق فرص الغواية، وإبعاد عوامل الفتنة; وأخذ الطريق على أسباب التهييج والإثارة، مع إزالة العوائق دون الإشباع الطبيعي بوسائله النظيفة
المشروعة.
ومن هنا يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها; فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم
وسماحهم بالدخول, خيفة أن تطلع الأعين على خفايا البيوت , وعلى عورات أهلها وهم غافلون.
لقد جعل الله البيوت سكنا, يفيء إليها الناس; فتسكن
أرواحهم; وتطمئن نفوسهم; ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم, ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب. !
والبيوت لا تكون كذلك، إلا حين تكون
حرما آمنا لا يستبيحه أحد، إلا بعلم أهله وإذنهم وفي الوقت الذي يريدون, وعلى الحالة التي يحبون أن
يلقوا عليها الناس.
أضف إلى ذلك: أن استباحة حرمة البيت من الداخلين، دون استئذان, يجعل أعينهم
تقع على عورات، وتلتقي بمفاتن تثير الشهوات; وتهيئ
الفرصة للغواية, الناشئة من اللقاءات العابرة والنظرات الطائرة, التي قد تتكرر فتتحول إلى نظرات قاصدة, تحركها الميول، التي أيقظتها اللقاءات
الأولى على غير قصد ولا انتظار; وتحولها إلى علاقات آثمة بعد بضع خطوات، أو إلى شهوات محرومة تنشأ عنها
العقد النفسية والانحرافات.
وهناك آداب وأحكام في هذا المجال لا يتسع لذكرها الوقت، ومن أرادها فليرجع
إليها في كتب التفاسير.
والأمر الخامس من المنهج
الوقائي: غض البصر، وحفظ الفرج، لذلك فقد أمر الله تعالى المؤمنين والمؤمنات بغض
البصر، وحفظ الفرج، فقال تعالى: ]قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
يَصْنَعُونَ . وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ
إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ
أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ
أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا
يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا
إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[([1])
فغض البصر من جانب الرجال أدب نفسي, ومحاولة للاستعلاء على
الرغبة في الاطلاع على المحاسن والمفاتن في الوجوه والأجسام. كما أن فيه إغلاقا
للنافذة الأولى من نوافذ الفتنة والغواية. ومحاولة عملية، للحيلولة دون وصول
السهم المسموم. !
وحفظ الفرج هو الثمرة الطبيعية لغض البصر، أو هو الخطوة
التالية لتحكيم الإرادة، ويقظة الرقابة, والاستعلاء على الرغبة في مراحلها الأولى.
ومن ثم يجمع بينهما في آية واحدة; بوصفهما سببا ونتيجة; أو باعتبارهما خطوتين
متواليتين في عالم الضمير وعالم الواقع. كلتاهما قريب من قريب.
لقد رفع الإسلام ذوق المجتمع الإسلامي, وطهر إحساسه بالجمال; فلم يعد الطابع الحيواني للجمال هو المستحب, بل الطابع
الإنساني المهذب، وجمال الكشف الجسدي، جمال حيواني يهفو إليه الإنسان بحس الحيوان; مهما يكن
من التناسق والاكتمال. فأما جمال الحشمة فهو الجمال النظيف, الذي يرفع الذوق الجمالي, ويجعله لائقا بالإنسان، ويحيطه بالنظافة والطهارة في الحس والخيال.
فعن بريدة قال: قال رسول الله r لعلي: [يا علي لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى،
وليست لك الآخرة]([2]) .
والأمر السادس من المنهج
الوقائي: تيسير أمر الزواج، وتزويج غير القادرين عليه. (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ . (وَلْيَسْتَعْفِفِ
الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ
وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ
إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ
وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً
لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ
مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ[([1])
إن الزواج، هو الطريق
الطبيعي لمواجهة الميول الجنسية الفطرية. وهو الغاية النظيفة لهذه الميول
العميقة. فيجب أن تزول
العقبات من طريق الزواج, لتجري الحياة على طبيعتها وبساطتها. والعقبة المالية هي العقبة
الأولى في طريق بناء البيوت, وتحصين النفوس. والإسلام نظام متكامل, فهو لا
يفرض العفة، إلا وقد هيأ لها أسبابها, وجعلها ميسورة للأفراد الأسوياء، فلا يلجأ إلى الفاحشة حينئذ، إلا الذي يعدل عن الطريق النظيف الميسور عامدا غير مضطر.
لذلك يأمر الله المسلمين،
أن يعينوا من يقف المال، عقبة في طريقهم إلى النكاح الحلال، حتى يتم
القضاء على الأسباب التي تؤدي إلى انتشار الفاحشة في المجتمع المسلم. فالوقاية خير
من العلاج. وكما أمر الأغنياء بمساعدة الفقراء، الذين هم في حاجة إلى الزواج، فإنه
من باب أولى، أن يكون هناك تيسير في أمر الزواج، وذلك من قِبَل أولياء أمور
الفتيات، وعدم المغالاة في المهور والتكاليف، فما من فتح لباب من الحلال، إلا
ويغلق مثله من الحرام. وهذا دور المجتمع المسلم، فكلما قلت الفاحشة في المجتمع،
كثر الأمن والأمان فيه. وهذا هو الهدف من تشريع هذه الأحكام.
إن الطهر والعفاف، هما الهدف من تشريع هذه الوسائل، التي أمرنا بها الله
ورسوله. فنسأل الله تعالى، أن يرزقنا الالتزام بشرعه، وأن يحفظنا من الفتن ما ظهر
منها وما بطن، إنه سبحانه وتعالى نعم المولى ونعم النصير.