الحلقة الرابعة عشر من التأملات القرآنية


الحلقة الرابعة عشر من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق.
الشجرة المباركة، والشجرة الخبيثة.
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على حبيبنا وشفيعنا سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول معنى كل من الشجرة المباركة، الشجرة الطيبة، والشجرة الخبيثة، والتي تشير كل منهما إلى الحق والباطل، حتى يتأكد لنا، أن الشجرة الطيبة لن تموت، ولن تؤثر فيها الآفات، وستظل شامخة، ما دامت من غرس الله تعالى. وأن الزوال لتلكم الشجرة الخبيثة لا محالة، إن عاجلا، وإن آجلا.
فالشجرة المباركة، هي الكلمة الطيبة. وهي الشجرة التي أثمرت الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم حتى خاتمهم رسول الله محمد r . وهي كلمة الحق، التي حملت لواءها الأجيال تلو الأجيال من أتباع الأنبياء والرسل، فساروا على نفس الطريق، وسلكوا درب أصحاب الدعوات، الذين سبقوهم، فأثمرت دعوتهم رجالا وقفوا في وجه الباطل، لم ترهبهم سجونه ولا معتقلاته، ولم تثنهم عن تحقيق أهدافهم مشانق ولا تعذيب، ولم تقف في سبيل تحقيق غايتهم غطرسة الباطل، فضحوا بأموالهم وأنفسهم، فصدق فيهم قول الله تعالى: ]مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً[ ([1])
هذه الشجرة المباركة، هي غرس المولى سبحانه وتعالى، واختيارها سبيلا لسيد الدعاة إلى الله تعالى، حيث قال في كتابه الكريم: ]قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ[([2]) وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين، وما أحسنها من وظيفة!!! ، حيث قال فيها ربنا تبارك وتعالى: ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[ ([3])
ولكون هذه الشجرة غرس الله تعالى، ووظيفة الأنبياء والرسل، فإنها دعوة ربانية، تحمل في ذاتها قوة التأثير والجذب. ففي الوقت الذي يعتقل فيه أصحابها ويضيق عليهم بشتى السبل، ترى من يقبل عليها من الشباب والفتيات. ولكونها غرس الله تعالى، فإنها قد اكتسبت الثبات والشموخ، لذلك فإنه يستعصي على الباطل اجتثاثها، أو النيل منها، أو أن يوقف نموها. وكما قال الشهيد سيد قطب: {ثابتة سامقة مثمرة . . ثابتة لا تزعزعها الأعاصير , ولا تعصف بها رياح الباطل ; ولا تقوى عليها معاول الطغيان - وإن خيل للبعض أنها معرضة للخطر الماحق في بعض الأحيان - سامقة متعالية , تطل على الشر والظلم والطغيان من عل - وإن خيل إلى البعض أحيانا أن الشر يزحمها في الفضاء - مثمرة لا ينقطع ثمرها , لأن بذورها تنبت في النفوس المتكاثرة آنا بعد آن.} ويقول أيضا: {والخير الأصيل لا يموت ولا يذوي . مهما زحمه الشر وأخذ عليه الطريق . . والشر كذلك لا يعيش إلا ريثما يستهلك بعض الخير المتلبس به -



[1] - ســورة الأحزاب: 23
[2] - ســورة يوسف: 108
[3] - ســورة فصلت: 33
فقلما يوجد الشر الخالص - وعندما يستهلك ما يلابسه من الخير فلا تبقى فيه منه بقية , فإنه يتهالك ويتهشم مهما تضخم واستطال.}
لذلك فإن شجرة الدعوة لا تروى بالماء، كما يروى غيرها من الأشجار، ولكنها تروى بالدماء، بمعنى أنه لا بد لها من تضحيات. فبهذا قضت سنة الله في الدعوات. ولو تتبعت تاريخ الدعوات وما جرى لأصحابها بدءا بالأنبياء والمرسلين، وانتهاء بأتباعهم إلى يومنا هذا، لوجدت صحة ما نقول.
ولقد قص علينا القرآن الكريم الكثير من ذلك وقصت علينا السيرة النبوية الشريفة الكثير كذلك. ومما ذكره القرآن قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ[ ([1]) ثم تتبع السيرة، لترى آل ياسر في محنتهم، ولترى غيرهم من الصحابة والتابعين والفقهاء والمحدثين، وسوف تصل في آخر المطاف إلى شهداء الدعوة في العصر الحديث، لتعيش لحظات مع مؤسس الدعوة في القرن العشرين، الشيخ حسن البنا. والقاضي المستشار عبد القادر عودة. والواعظ المتميز الشيخ فرغلي. والمجاهد في سبيل الله يوسف طلعت. والأديب المفسر سيد قطب. وغيرهم كثير في العصر الحديث، أمثال الشهيد أحمد ياسين ورفاقه الأبرار. وما زال العطاء مستمرا، وما زالت الدماء تسيل، وما زالت التضحيات تقدم، كي تظل الشجرة ثابتة شامخة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. وتدبر ذلك من خلال قول الله تعالى:  ]أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)[
فما ظنك يا أخي بشجرة، هي من غرس الرب سبحانه وتعالى؟!!! وما ظنك بدعوة حمل لوءاها الأنبياء والمرسلون.؟!!! إن الله تعالى قد كتب لها الخلود، لذلك فإنها سوف تظل ثابتة راسخة مثمرة حتى يرث الله الأرض ومن عليها، حتى ولو تخلى عنها الناس أجمعون، فإن الله تعالى يخلق لها خلقا جديدا، ويهيئ لها أسباب البقاء رغم أنف الدنيا كلها. فالشجرة قائمة وكائنة بنا وبغيرنا، ولكننا لن نكون بغيرها.  وتدبر هذه الآيات بثقة ويقين.
قال تعالى: ]إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[ ([2]) وفال تعالى: ]هَاأَنتُمْ هَؤُلَاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ[ ([3])  وقال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ[([4])
الشجرة الخبيثة، وأما الشجرة الخبيثة، فهي كلمة الباطل، هي الزور والبهتان والافتراء، هي الصلف والغرور، هي الطغيان والجبروت، هي غرس الشيطان وحزبه، هي فرعون وهامان وقارون، هي أبو جهل وأبو لهب وعتبة وشيبة، هي العلمنة والتجهيل، هي الفساد بجميع أطيافه وألوانه وصوره.



[1] - ســورة آل عمران: 21
[2] - ســورة التوبة: 39
[3] - ســورة محمد : 38
[4] ســورة المائدة : 54
-----------------

وشكل هذه الشجرة ظاهر في الدكتاتورية، وكبت الحريات، وتكميم الأفواه. وشعارها المفضل: ]قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ[ ([1])   ]قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ[ ([2])   ]قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ. لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ[ ([3])  
إذا نظرت إلى هذه الشجرة أخي القارئ راعك منظرها، وأصبت بالفزع والهلع، ظنا منك أنها شيء وهي في الحقيقة لا شيء!!! ]فأوجس في نفسه خيفة موسى. قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى[، حيث إن الباطل قد انتفش وانتشر، وأصبح تحميه دول ومؤسسات، وله ميزانيات ضخمة، وله أجهزة وإعلام وجيوش وأسلحة حديثة، فيزداد خوفك ويشتد رعبك، وتقول: ماذا نصنع نحن العزل مع هذه القوى وهذه الأجهزة، ونحن لا نملك إعلاما ولا مالا ولا سلاحا. إن شكل الباطل مرعب!!! وتقول: إن الأولى بنا أن نقول: ما قالته النملة: ]يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم[ ونرضخ للواقع الذي يريده منا الباطل، ونستسلم له ونكون طوع يمينه، فلعل في ذلك مصلحة الدعوة!!! وهاهم أصحاب الأفكار الأخرى يعيشون في أمن وسلام وينشرون دعوتهم، دونما تضييق، أو أذى. وما الفائدة من المشاركة في الانتخابات بجميع أنواعها ونحن لم نجن من ورائها إلا الاعتقالات وخراب البيوت.!!!
ولكنك أخي الكريم إذا قرأت تلك الآيات وكان عندك اليقين، لتغير رأيك. نعم، أنا على يقين مما أقول.!!! تدبر قول الله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ[([4])    ]أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ[([5])    
فأما الزبد) من السيل وما أوقد عليه من الجواهر (فيذهب جفاء) باطلاً مرمياً به (وأما ما ينفع الناس) من الماء والجواهر (فيمكث) يبقى (في الأرض) زماناً، كذلك الباطل يضمحل وينمحق وإن علا على الحق في بعض الأوقات، والحق ثابت باق (كذلك) المذكور (يضرب) يبين (الله الأمثال)
]وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)[([6]) يقول الشهيد سيد قطب: {وإن الكلمة الخبيثة - كلمة الباطل - كالشجرة الخبيثة ; قد تهيج وتتعالى وتتشابك ; ويخيل إلى بعض الناس أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى . ولكنها تظل نافشة هشة , وتظل جذورها في التربة قريبة حتى لكأنها على وجه الأرض . . وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض , فلا قرار لها ولا بقاء .
ليس هذا وذلك مجرد مثل يضرب , ولا مجرد عزاء للطيبين وتشجيع . إنما هو الواقع في الحياة , ولو أبطأ تحققه في بعض الأحيان.



[1] - ســورة الشعراء : 29
[2]  -  ســورة غافر : 29
[3] - ســورة الشعراء : 49
[4]  - ســورة الأنفال : 36
[5]  - ســورة الرعد : 17
[6] - ســورة إبراهيم: 24- 26
أخي كم كان عدد المسلمين في أول بعثة رسول الله؟ وكم كان عددهم في الهجرة؟ وكيف دخل رسول الله r مكة يوم الفتح، وكم كان عدد المسلمين معه. ؟؟؟ وكم كان عدد المسلمين في حجة الوداع. ؟؟؟ لقد كان r يوم الفتح مع عشرة آلاف مسلم، وبعدها بعامين وفي حجة الوداع، كان حوله من الحجيج مائة وعشرون ألفا من الموحدين، يتلقون آخر التعليمات، لينطلقوا إلى الدنيا هداة إلى الحق مبلغين دعوة الله للأبيض والأحمر. وفتحوا الفتوحات، واجنثوا شجرة الباطل من جذورها، وظلت الشجرة المباركة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، وستظل إلى الأبد، لكن النصر مع الصبر، والفرج مع الكرب، واليسر مع العسر، ولن يغلب عسر يسرين. ]إن مع العسر يسرا. إن مع العسر يسرا[
 أخي حافظ على الشجرة، وتعهدها، واحمها، واروها بدمك. وإياك أن تفرط فيها. واعمل جاهدا على إزالة الشجرة الخبيثة من أصلها، واجتثاثها من جذورها. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.