الحلقة الأولى من التأملات القرآنية


(1) تأملات قرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
الجزء الأول من سورة البقرة
حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على سيدنا وحبيبنا رسول الله r، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد
فهذه تأملات قرآنية روحانية، تجعلك تعيش مع القرآن بروحك وقلبك وعقلك وجميع جوارحك، حتى ترى نفسك تستمتع بالقرآن الكريم، فتقبل على قراءته، متدبرا، متأملا، فاقها، فيعينك هذا على العمل به، والدعوة إليه، والاستمساك به، خاصة ونحن في شهر القرآن، شهر التوبة والغفران.


وفي هذه الحلقة، سوف تكون تأملاتنا في الجزء الأول من سورة البقرة، والتي هي من أوائل ما نزل من السور بعد الهجرة . وهي أطول سور القرآن على الإطلاق. ولقد روى أن رسول الله rقال: أيالقرآن أفضل؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم. قال: سورة البقرة، ثم قال: وأيها أفضل؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: آية الكرسي. وهذه السورة مدنية. وآياتها مائتان وسبع وثمانون على المشهور، وقيل: ست وثمانون. وفيها: آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: ]وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ[ ([1]) وقد نزلت هذه الآية في حجة الوداع يوم النحر، ولا تخرج بذلك عن كونها مدنية.
 ووجه مناسبتها لسورة الفاتحة، أن الفاتحة مشتملة على بيان الربوبية أولا. والعبودية ثانيا. وطلب الهداية في المقاصد الدينية، والمطالب اليقينية ثالثا. وكذا سورة البقرة مشتملة على بيان معرفة الرب أولا. كما في قوله تعالى: ]الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ[ وأمثاله وعلى العبادات وما يتعلق بها ثانيا. وعلى طلب ما يحتاج إليه في العاجل والآجل آخرا. وأيضا في آخر الفاتحة، طلب الهداية. وفي أول البقرة إيماء إلى ذلك بقوله: ]هُدىً لِلْمُتَّقِينَ[. ولما أفتتح سبحانه وتعالى الفاتحة بالأمر الظاهر وكان وراء كل ظاهر باطن، أفتتح هذه السورة بما بطن سره وخفي، إلا على من شاء الله تعالى أمره، فقال سبحانه وتعالى: بسم الله الرحمن الرحيم.]الم[ ([2])
ولقد ورد في فضل هذه السورة أحاديث كثيرة، ومن ذلك: ما روي أن رسول الله rبعث بعثا، وهم ذو عدد فاستقرأهم، فاستقرأ كل رجل منهم، ما معه من القرآن. فأتى على رجل منهم من أحدثهم سنا، فقال: ما معك يا فلان؟ قال: معي كذا وكذا، وسورة البقرة. قال: أمعك سورة البقرة؟ فقال: نعم. قال: فاذهب فأنت أميرهم. فقال رجل من أشرافهم: والله يا رسول الله، ما منعني أن أتعلم سورة البقرة، إلا خشية ألا أقوم بها.! فقال رسول الله r: تعلموا القرآن، فاقرؤه وأقرئوه، فإن مثل القرآن لمن تعلمه فقرأه وقام به، كمثل جراب محشو مسكا، يفوح بريحه كل مكان. ومثل من تعلمه فيرقد، وهو في جوفه، كمثل جراب وكئ على مسك.] ([3])
ومن ذلك ما روي عن أسيد بن حضير t أنه قال: يا رسول الله، بينما أنا أقرأ الليلة سورة البقرة، إذ سمعت وجبة من خلفي، فظننت أن فرسي انطلق. فقال رسول الله r : اقرأ أبا عتيك، فالتفت فإذا مثل المصباح مدلى بين السماء



[1] - ســورة البقرة :281
[2] - أول ســورة البقرة
[3] - قال أبو عيسى هذا حديث حسن وقد رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري عن عطاء مولى أبي أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا ولم يذكر فيه عن أبي هريرة


والأرض، ورسول الله r يقول: اقرأ أبا عتيك، فقال: يا رسول الله فما استطعت أن أمضي. فقال رسول الله r: تلك الملائكة تنزلت لقراءة سورة البقرة.! أما إنك لو مضيت لرأيت العجائب. ([1])

ومن ذلك قوله r: ]اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شفيعا يوم القيامة لصاحبه. اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة، كأنهما غيايتان، أو كأنهما غمامتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما. اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة. ([2])
وبعد التعريف بالسورة وفضلها، فإنه سوف تكون لنا وقفات تأملية مع بعض الآيات، التي تلفت نظرنا في الجزء الأول من هذه السورة الكريمة. ومن ذلك: قوله تعالى: ]فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ . وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ[([3])
إن الله تعالى، يعطي كل إنسان على حسب ما قدم لنفسه في دنياه. ]وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً[([4]) فمن كان عبدا لهواه وشهواته، أو منصبه، أو ماله، أو لزوجه وولده، فإنه سوف يجد الجزاء الأوفى، الذي ينتظره. فهو سوف يأكل من ثمار غرسه، ومن نتاج كسبه وسعيه، فلقد أوقد على نفسه نار الآخرة في الدنيا بمعاصيه، فكان وقودا للنار. ]فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ[
وأما من كان عبدا لربه، وطائعا لنبيه، وخائفا من عذاب الجبار، وقد آثر الآخرة على الدنيا، وعمل لما بعد الموت، فإنه سوف يرى البشريات في الدنيا قبل الموت، وعند الموت، وبعد الموت.]إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ[([5])
ويعلق ابن القيم على فريقي الجنة والنار فيقول: "أقام الله سبحانه هذا الخلق بين الأمر والنهي والعطاء والمنع ‏.‏ فافترقوا فرقتين‏:‏ فرقة قابلت أمره بالترك، ونهيه بالارتكاب، وعطاءه بالغفلة عن الشكر، ومنعه بالسخط، وهؤلاء أعداؤه ، وفيهم من العداوة بحسب ما فيهم من ذلك‏.‏ وقسم قالوا‏:‏ إنما نحن عبيدك ، فإن أمرتنا سارعنا إلى الإجابة ، وإن نهيتنا أمسكنا نفوسنا وكففناها عما نهيتنا عنه، وإن أعطيتنا حمدناك وشكرناك، وإن منعتنا تضرعنا إليك وذكرناك‏.‏ فليس بين هؤلاء وبين الجنة إلا ستر الحياة الدنيا، فإذا مزقه عليهم الموت، صاروا إلى النعيم المقيم وقرة الأعين ‏.‏ كما أن أولئك ليس بينهم وبين النار إلا ستر الحياة ، فإذا مزقه الموت صاروا إلى الحسرة والألم ‏.‏
فإذا تصادمت جيوش الدنيا والآخرة في قلبك ، وأردت أن تعلم من أي الفريقين أنت ، فانظر مع من تميل منهما ومع من تقاتل، إذ لا يمكنك الوقوف بين الجيشين ، فأنت مع إحداهما لا محالة ‏.‏ فالفريق الأول استغشوا الهوى واستنصحوا العقل فشاوروه ، وفرغوا قلوبهم للفكر فيما خلقوا له ، وجوارحهم للعمل بما أمروا به ، وأوقاتهم لعمارتها بما يعمر منازلهم في الآخرة ، واستظهروا على سرعة الأجل بالمبادرة إلى العمل ، وسكنوا الدنيا وقلوبهم مسافرة عنها ، واستوطنوا الآخرة قبل



[1] -  رواه ابن حبان في صحيحه ورواه البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد بنحوه .  
[2] -  حديث صحيح . والبطلة: هم السحرة.
[3] - ســورة البقرة:24، 25
[4] - ســورة الكهف : 49
[5] - ســورة فصلت : 30
انتقالهم إليها ، واهتموا بالله وطاعته على قدر حاجتهم إليه ، وتزودوا للآخرة على قدر مقامهم فيها ، فعجل لهم سبحانه من نعيم الجنة وروحها إن آنسهم بنفسه وأقبل بقلوبهم إليه وجمعها على محبته وشوقهم إلى لقائه ونعمهم بقربه وفرغ قلوبهم مما ملأ قلوب غيرهم من محبة الدنيا والهم والحزن على فوتها والغم من خوف ذهابها ، فاستلانوا ما استوعره المترفون ، وأنسوا بما استوحش منه الجاهلون ، صحبوا الدنيا بأبدانهم ، والملأ الأعلى بأرواحهم‏."
‏فيا لها من يشرى سارة للمؤمنين العاملين على الطريق المستقيم، الذين يعملون الصالحات، فهم يعملون الصالح والنافع من الأعمال، التي تنفعهم وتنفع بني جنسهم ودينهم ووطنهم، لأنهم ليسوا أنانيين يهتمون بأنفسهم دون غيرهم. وهذه هي صفة المسلم، الذي يعرف الغاية من خلقه، ودوره في الحياة، فغايته أن تدخل السعادة كل بيت، وأن يهنأ كل فرد من أفراد الأمة، وأن تعيش الأمة في عزة وكرامة. ولهذا استحق هذا الصنف من البشر الثواب الجزيل والجزاء الأوفى: ]جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُون[
لقد وصف الله الجنة، بأنها تجري من تحتها الأنهار، أي من تحت أشجارها وغرفها. وقد جاء في الحديث: [أن أنهارها تجري في غير أخدود.] وجاء في الكوثر: [أن حافتيه قباب اللؤلؤ المجوف.] ولا منافاة بينهما، فطينها المسك الأذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والجوهر. نسأل الله من فضله إنه هو البر الرحيم.
 ولقد روي عن أبي هريرة أن رسول الله r قال: أنهار الجنة تفجر من تحت تلال، أو من تحت جبال المسك. وقوله تعالى: ( كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشابها ) قال يعرفون أسماءه، كما كانوا في الدنيا، التفاح بالتفاح، والرمان بالرمان. قالوا: في الجنة هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا، وأتوا به متشابها يعرفونه، وليس هو مثله في الطعم.
وقوله تعالى ( ولهم فيها أزواج مطهرة ) مطهرة من القذر والأذى، وقال مجاهد: من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد. وقوله تعالى ( وهم فيها خالدون ) هذا هو تمام السعادة فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين من الموت والانقطاع فلا آخر له ولا انقضاء، بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام.
وأخيرا فإننا نتأمل حال أول زمرة تدخل الجنة، ونتأمل حال أدنى أهل الجنة منزلا. [إن أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، ثم الذين يلونهم على أشد كوكب دري في السماء إضاءة. لا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يتفلون، ولا يتمخطون. أمشاطهم الذهب، ورشحهم المسك، ومجامرهم الألوة، وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السماء].([1]) 


[وإن أدنى أهل الجنة منزلا، رجل صرف الله وجهه عن النار قِبَلَ الجنة، ومثل له شجرة ذات ظل، فقال أي رب قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها، فقال الله: هل عسيت أن تسألني غيره.؟ قال: لا، وعزتك، فقدمه الله إليها. ومثل له شجرة ذات ظل وثمر، فقال: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة فأكون في ظلها وآكل من ثمرها. فقال الله: هل



[1] - حديث صحيح.

عسيت إن أعطيتك ذلك أن تسألني غيره.؟ فيقول: لا، وعزتك فيقدمه الله إليها. فيمثل الله له شجرة أخرى ذات ظل وثمر وماء، فيقول: أي رب، قدمني إلى هذه الشجرة، فأكون في ظلها، وآكل من ثمرها، وأشرب من مائها، فيقول: له هل عسيت إن فعلت أن تسألني غيره؟ فيقول: لا، وعزتك لا أسألك غيره، فيقدمه الله إليها. فيبرز له باب الجنة، فيقول: أي رب، قدمني إلى باب الجنة، فأكون تحت سجاف الجنة، فأرى أهلها، فيقدمه الله إليها، فيرى الجنة وما فيها فيقول أي رب أدخلني الجنة فيدخل الجنة فإذا دخل الجنة قال هذا لي فيقول الله له تمن فيتمنى ويذكره الله عز وجل سل من كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني قال الله: هو لك وعشرة أمثاله، ثم يدخله الله الجنة فيَدخُل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا، وأحيانا لك. فيقول: ما أعطي أحد مثل ما أعطيت. وأدنى أهل النار عذابا، ينعل من نار بنعلين يغلي دماغه من حرارة نعليه].([1])
أخي الحبيب، تأمل هذا جيدا، وإياك أن تفوتك هذه الفرصة، وأنت على عتبات شهر كريم، تتعبد فيه لرب كريم، وإذا فارقت الدنيا، أقبلت على رب كريم، ونزلت ضيفا على الكريم، وإذا حاسبك، حاسبك حساب الكريم. فما أعظمه من رب كريم! يغفر الذنب العظيم، و يتوب على المذنبين، ويغفر للمستغفرين. أسأل الله العظيم رب العرش العظيم، أن يجعلنا من التوابين المتطهرين، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.



[1] - حديث صحيح.