الحلقة الثامنة والعشرون من التأملات القرآنية


الحلقة الثامنة والعشرون من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
الخشوع وعلاج القلب القاسي
حمدا لله تعالى. وصلاة وسلاما على خير الخلق، وحبيب الرب، والشفيع المشفع، سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واتبع هديه إلى يوم الدين. وبعد


فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول الخشوع، وعلاجه للقلب القاسي، وذلك من خلال ذلكم العتاب المؤثر من المولى الكريم الرحيم; والاستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب، التي أفاض عليها من فضله; فبعث فيها الرسول r يدعوها إلى الإيمان بربها, ونزل عليه الآيات البينات، ليخرجها من الظلمات إلى النور; وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر. هذا العتاب، الذي فيه الود, وفيه الحض, وفيه الاستجاشة إلى الشعور بجلال الله, والخشوع لذكره، وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام، مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال:
]أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[([1])
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء، تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة, وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتد بها الزمن بدون جلاء, وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين، حين تغفل عن ذكر الله, وحين لا تخشع للحق:] وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ[ وليس وراء قسوة القلوب، إلا الفسق والخروج.
إن هذا القلب، البشري سريع التقلب, سريع النسيان. وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور, ويرف كالشعاع; فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر، تبلد وقسا, وانطمست إشراقته، وأظلم وأعتم ! فلا بد من تذكير هذا القلب، حتى يذكر ويخشع, ولا بد من الطرق عليه، حتى يرق ويشف; ولا بد من اليقظة الدائمة، كي لا يصيبه التبلد والقساوة.
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد. فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة, وأن يشرق فيه النور, وأن يخشع لذكر الله. فالله يحيي الأرض بعد موتها, فتنبض بالحياة، وتزخر بالنبت والزهر, وتمنح الأكل والثمار. وكذلك القلوب حين يشاء الله.
ويقول ابن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: أما آن للمؤمنين، أن تخشع قلوبهم لذكر الله، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه. فعن بن عباس أنه قال: إن الله استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة، من نزول القرآن. فقال: ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله[ الآية و عن بن مسعود رضي الله عنه قال: ما كان بين إسلامنا، وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية: ]ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله[  الآية. إلا أربع سنين. كذا رواه مسلم.


[1] - ســورة الحديد:16
ويقول القرطبي: لقد ذكر ابن المبارك، أن مالك بن أنس قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى، فتقسوا قلوبكم. فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس، كأنكم أرباب، وانظروا فيها، أو قال: في ذنوبكم، كأنكم عبيد. فإنما الناس رجلان: معافى، ومبتلى. فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
ولقد كانت هذه الآية الكريمة ] ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله[ سببا في توبة الفضيل بن عياض، وعبد الله بن المبارك رحمهما الله.
     فلقد سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده، فقال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا. وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له: راشين السحر. وأراد سنان أن يغني، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان، يعني العود، الذي بيده ويقول: ]ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق[  قلت: بلى والله، وكسرت العود، وصرفت من كان عندي. فكان هذا أول زهدي وتشميري.
 وبلغنا عن الشعر الذي أراد بن المبارك أن يضرب به العود:
 ألم يأن لي منك أن ترحمـا         وتعص العواذل واللوما.
 وترثى لصب بـكم مغرم         أقام على هجركم مأتما.
 يبيت إذا جنه ليله يراعي          الكـواكب والأنجـما .
و مـاذا على الظبي لو أنه         أحل من الوصل ما حرما.
 وأما الفضيل بن عياض، فكان سبب توبته، أنه عشق جارية، فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها، إذ سمع قارئا يقرأ ]ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله[  فرجع القهقري، وهو يقول: بلى والله، قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة – أبناء السبيل- وبعضهم يقول لبعض إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل: أواه أراني بالليل أسعى في معاصي الله. قوم من المسلمين يخافونني. اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
إذن، فالخشوع، كما يقول ابن القيم في المدارج: قيام القلب بين يدي الرب بالخضوع والذل والجمعية عليه.
وقيل: الخشوع: الانقياد للحق. وهذا من موجبات الخشوع. فمن علاماته: أن العبد، إذا خولف، ورُد عليه بالحق، استقبل ذلك بالقبول والانقياد.
وقيل: الخشوع: خمود نيران الشهوة، وسكون دخان الصدور، وإشراق نور التعظيم في القلب.
وقال الجنيد: الخشوع: تذلل القلوب لعلام الغيوب".
وأجمع العارفون على أن الخشوع،  محله القلب. وثمرته على الجوارح، وهي تظهره. و رأى النبي r رجلا، يعبث بلحيته في الصلاة، فقال: [لو خشع قلب هدا، لخشعت جوارحه] وقال النبي r : [التقوى ههنا، وأشار إلى صدره ثلاث مرات]. وقال بعض العارفين: حسن أدب الظاهر، عنوان أدب الباطن. ورأى بعضهم رجلا خاشع المنكبين والبدن فقال: يا فلان، الخشوع ههنا وأشار إلى صدره، لا ههنا وأشار إلى منكبيه.
وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم وهو حذيفة يقول: [إياكم وخشوع النفاق. فقيل له: وما خشوع النفاق؟ قال: أن ترى الجسد خاشعا والقلب ليس بخاشع]. ورأى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا طأطأ رقبته في الصلاة فقال: [يا صاحب الرقبة، ارفع رقبتك، ليس الخشوع في الرقاب، إنما الخشوع في القلوب] ورأت عائشة رضي الله عنها شبابا يمشون ويتماوتون في مشيتهم. فقالت لأصحابها: من هؤلاء؟ فقالوا: نساك فقالت: [كان عمر بن الخطاب، إذا مشى أسرع. وإذا قال، أسمع. وإذا ضرب، أوجع. وإذا أطعم، أشبع. وكان هو الناسك حقا] وقال الفضيل بن عياض: [كان يكره أن يرى الرجل من الخشوع أكثر مما في قلبه] وقال حذيفة رضي الله عنه: [أول ما تفقدون من دينكم الخشوع. وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة. ورب مصل لا خير فيه. ويوشك أن تدخل مسجد الجماعة، فلا ترى فيهم خاشعا] وقال سهل: [من خشع قلبه لم يقرب منه الشيطان].
وبعد كل الذنوب والمعاصي، وبعد كل البعد والتجافي، وبعد كل الظلم والمآسي. أمَا آن لنا أن نرجع إلى الله.؟ أما آن لنا، أن نتوب وننوب قبل أن يحاسبنا علام الغيوب.؟ فماذا نقول لله غدا؟؟
إذا ما قــال  لي  ربي          أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي         و بالعصيــان تأتيني
فكيـف أجيب يا ويحي         ومن ذا سوف يحميني
أٌسلي النفس  بالآمـال         من حـينٍ  إلى حـينِ
وأنسى ما وراء المـوت         مــاذا بعـد تكفيني
كأني ضـمنت  العيش          ليس  المـوت يأتيـني
وجاءت سـكرة الموت          الشديدة من سيحميني
نـظرت الى الوجـوه           أليس منهم من سيفديني
سأٌسألُ ما الذي قدمت          في  دنيــاي ينـجيني
فكيـف إجابتي بعدما         فرطـت  في ديـــني
و يا ويحي ألم أسمع كلام الله يدعـوني؟          ألم أسمع ما جـاء في قـافٍ ويـاسين.
 ألم أسمع بيوم الحشر يوم الجمع والدين؟        ألم أسمع منادي الموت يدعوني ينـاديني
فيـا رباه عبدٌ تائب من ذا سـيُئويني          سوى رب غفور واسـعٍ للحق يهديني
أتيت إليـك فارحمني وثقل في موازيني         وخفف في جزائي أنت أرجى من يجازيني .
أما حان الوقت، الذي نصطلح فيه مع ربنا؟ أما حان الوقت، الذي نطبق فيه شرع خالقنا؟. أما حان الوقت، الذي ترق فيه قلوبنا؟. أما حان الوقت، الذي نطهر فيه من الأحقاد والوساوس والأمراض قلوبنا ؟. أما حان الوقت، لأن تخشع للقرآن قلوبنا. بلى يا رب قد آن الأوان، وحان الوقت، وسنحت الفرصة، فتقبل توبتنا، وأعنا على طاعتك، وأعتق من النار رقابنا، ولعلها تكون دعوة مستجابة. آمين.