الحلقة الخامسة من التأملات القرآنية


الحلقة الخامسة من التأملات القرآنية
بقلم د. أحمد عبد الخالق
من دعائم الإسلام: الأمانة والعدل
حمدا لله، وصلاة وسلاما يليقان بمقام حبيبنا رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وبعد
فإن للإسلام دعائمَ قوية قام عليها وتميز بها، ومن هذه الدعائم: الأمانة والعدل. فبهما استطاع الإسلام أن يغزو القلوب، وأن ينفذ إلى أعماق النفوس، وذلك من خلال هذه الدعائم القوية، التي قامت عليه السماوات والأرض. وما من دولة، أو مجتمع، أو مؤسسة تخلو من الأمانة، إلا ولا بد من زوال هذه الدولة وخرابها، وذلك لما رواه أبو هريرة t قال: بينما كان النبي r يحدث، إذ جاء أعرابي فقال: متى الساعة ؟ قال: [إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة.] قال: كيف إضاعتها ؟ قال: [إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة]([1]). وما من دولة تخلو من العدل وينتشر فيها الظلم، إلا ولا بد من زوالها وخرابها وذلك لكثرة ما ينال الظالِمَ من دعاء المظلومين المستجاب. فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله r بعث معاذا إلى اليمن، فقال: [اتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب]([2]) أضف إلى ذلك، أنه لا يمكن أن يبنى ملك على ظلم وطغيان، فدولة الظلم ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة.


ومن هنا كان الأمر من الله تعالى للمؤمنين، بأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها، وبالحكم بين الناس بالعدل، حيث قال الله تعالى: ] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً[([3])  
وقد ورد في سبب نزول هذه الآية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما فتح رسول الله rمكة دعا عثمان بن أبي طلحة، فلما أتاه قال: أرني المفتاح، فأتاه به، فلما بسط يده إليه، قام العباس فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي اجعله لي مع السقاية، فكف عثمان يده، فقال رسول الله r : أرني المفتاح يا عثمان، فبسط يده يعطيه، فقال العباس: مثل كلمته الأولى، فكف عثمان يده، ثم قال رسول الله r: يا عثمان إن كنت تؤمن بالله واليوم الآخر فهاتني المفتاح، فقال: هاك بأمانة الله تعالى، فقام ففتح الكعبة فوجد فيها تمثال إبراهيم عليه السلام، معه قداح يستقسم بها، فقال رسول الله r : ما للمشركين -قاتلهم الله تعالى-، وما شأن إبراهيم عليه السلام، وشأن القداح. وأزال ذلك، وأخرج مقام إبراهيم عليه السلام وكان في الكعبة، ثم قال: أيها الناس هذه القبلة، ثم خرج فطاف بالبيت، ثم نزل عليه جبريل عليه السلام فيما ذكر لنا برد المفتاح فدعا عثمان ابن أبي طلحة فأعطاه المفتاح، ثم قال: ]إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا[الآية

إن هذه الآية، لتوضح تكاليف الانتماء إلى الإسلام; وتعلن عن خُلًق المنتمين إليه، ألا وهو أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بين الناس بالعدل على منهج الله وتعليمه. والأمانات تبدأ من الأمانة الكبرى، الأمانة التي ناط الله بها فطرة الإنسان ; والتي أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان. أمانة الهداية والمعرفة والإيمان بالله عن قصد وإرادة وجهد واتجاه. فهذه أمانة الفطرة الإنسانية خاصة، فكل ما عدا الإنسان ألهمه ربه الإيمان به والاهتداء إليه،



[1] - رواه البخاري
[2] - رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي في حديث والترمذي مختصرا   
[3] - ســورة النساء: 58


ومعرفته وعبادته وطاعته، وألزمه طاعة ناموسه بغير جهد منه ولا قصد ولا إرادة ولا اتجاه. والإنسان وحده هو الذي وكل إلى فطرته وإلى عقله وإلى معرفته وإلى إرادته وإلى اتجاهه وإلى جهده الذي يبذله للوصول إلى الله بعون من الله. ] (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[([1]).
 ومن هذه الأمانة الكبرى تنبثق سائر الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى ومن هذه الأمانات أمانة الشهادة لهذا الدين. الشهادة له في النفس أولا، بمجاهدة النفس، حتى تكون ترجمة له، ترجمة حية في شعورها وسلوكها، حتى يرى الناس صورة الإيمان في هذه النفس فيقولوا ما أطيب هذا الإيمان وأحسنه وأزكاه! ; وهو يصوغ نفوس أصحابه على هذا المثال من الخلق والكمال، فتكون هذه شهادة لهذا الدين في النفس يتأثر بها الآخرون. والشهادة له بدعوة الناس إليه، وبيان فضله ومزيته بعد تمثل هذا الفضل وهذه المزية في نفس الداعية، فما يكفي أن يؤدي المؤمن الشهادة للإيمان في ذات نفسه، إذا هو لم يدع إليها الناس كذلك، وما يكون قد أدى أمانة الدعوة والتبليغ والبيان وهي إحدى الأمانات، ثم الشهادة لهذا الدين بمحاولة إقراره في الأرض ; منهجا للجماعة المؤمنة ; ومنهجا للبشرية جميعا، المحاولة بكل ما يملك الفرد من وسيلة، وبكل ما تملك الجماعة من وسيلة. فإقرار هذا المنهج في حياة البشر، هو كبرى الأمانات ; بعد الإيمان الذاتي، ولا يعفى من هذه الأمانة الأخيرة فرد ولا جماعة، ومن ثَم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة  على هذا الأساس، أداءً لإحدى الأمانات.
 ومن هذه الأمانات الداخلة في ثنايا ما سبق، أمانة التعامل مع الناس ; ورد أماناتهم إليهم، أمانة المعاملات والودائع المادية، وأمانة النصيحة للراعي وللرعية، وأمانة القيام على الأطفال الناشئة، وأمانة المحافظة على حرمات الجماعة وأموالها وثغراتها، وسائر ما يجلوه المنهج الرباني من الواجبات والتكاليف في كل مجالي الحياة على وجه الإجمال. فهذه من الأمانات التي يأمر الله أن تؤدى ; ويجملها النص هذا الإجمال.
لذلك كانت الأمانة أمرا ثقيلا، لا يقدر على حملها المهازيل من الناس، ولا أصحاب النفوس الضعيفة، ولا أصحاب الطبائع الخسيسة، ولكن الذين يقدرون على حملها هم أصحاب النفوس الأبية والهمم العالية، الذين ينظرون دائما إلى معالي الأمور.
إن الأمانة تؤدى للبر والفاجر، وللمسلم وغير المسلم، فهذا ما تعلمناه من رسول الله rالذي كلف علي بن أبي طالب – ليلة الهجرة – ليبيت بفراشه، وليرد أمانات المشركين إليهم، والتي كانت عند رسول الله r . في الوقت الذي أعد المشركون فيه العدة لقتل رسول الله r، ولم يعاملهم رسول الله r بأخلاقهم، بل عاملهم بالخلق الذي يعث به عليه الصلاة والسلام. وما أحوجنا إلى أن نتعلم ذلك من رسولنا r.
 فأما الحكم بالعدل بين الناس، فالنص يطلقه هكذا عدلا شاملا بين الناس جميعا، لا عدلا بين المسلمين بعضهم وبعض فحسب، ولا عدلا مع أهل الكتاب، دون سائر الناس، وإنما هو حق لكل إنسان بوصفه إنسانًا. فهذه الصفة صفة الناس، هي التي يترتب عليها حق العدل في المنهج الرباني، وهذه الصفة يلتقي عليها البشر جميعا، مؤمنين وكفارا، أصدقاء وأعداء، سودا وبيضا، عربا وعجما.
 والأمة المسلمة قيمة على الحكم بين الناس بالعدل متى حكمت في أمرهم. هذا العدل الذي لم تعرفه البشرية قط في هذه الصورة، إلا على يد الإسلام، وإلا في حكم المسلمين، وإلا في عهد القيادة الإسلامية للبشرية، والذي افتقدته من قبل



[1] - ســورة العنكبوت : 69
ومن بعد هذه القيادة ; فلم تذق له طعما قط في مثل هذه الصورة الكريمة، التي تتاح للناس جميعا، لأنهم ناس، لا لأية صفة أخرى زائدة عن هذا الأصل الذي يشترك فيه الناس، وذلك هو أساس الحكم في الإسلام ; كما أن الأمانة بكل مدلولاتها هي أساس الحياة في المجتمع الإسلامي.
 والتعقيب على الأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ; والحكم بين الناس بالعدل ; هو التذكير بأنه من وعظ الله سبحانه وتوجيهه (ونعم ما يعظ الله به ويوجه) ]إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ[ ونقف لحظة أمام التعبير من ناحية أسلوب الأداء فيه، فالأصل في تركيب الجملة: إنه نِعم ما يعظكم الله به، ولكن التعبير يقدم لفظ الجلالة، فيجعله اسم إن، ويجعل نعم ما. نِعِمًا ومتعلقاتها في مكان خبر إن بعد حذف الخبر، ذلك ليوحي بشدة الصلة بين الله سبحانه، وهذا الذي يعظهم به، ثم إنها لم تكن عظة إنما كانت أمرًا، ولكن التعبير يسميه عظة، لأن العظة أبلغ إلى القلب، وأسرع إلى الوجدان، وأقرب إلى التنفيذ المنبعث عن التطوع.
 ثم يجيء التعقيب الأخير في الآية ; يعلق الأمر بالله ومراقبته وخشيته ورجائه: ]إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً[ والتناسق بين المأمور به من التكاليف ; وهو أداء الأمانات والحكم بالعدل بين الناس ; وبين كون الله سبحانه سميعا بصيرًا، مناسبة واضحة ولطيفة معا، فالله يسمع ويبصر قضايا العدل وقضايا الأمانة، والعدل كذلك في حاجة إلى الاستماع البصير، وإلى حسن التقدير، وإلى مراعاة الملابسات والظواهر، وإلى التعمق فيما وراء الملابسات والظواهر وأخيرا فإن الأمر بهما يصدر عن السميع البصير بكل الأمور سبحانه وتعالى.
إن العدل المطلق، الذي لا يعرف التحيز، ولا يعرف الميل، ولا يعرف العصبية ولا الهوى، إنما هو العدل، الذي جاء به الإسلام، لأنه تشريع الحكم العدل، الذي لا يعرف الظلم ولا يقره، فلقد حرمه الله على نفسه وعلى عباده ، حيث قال r في الحديث القدسي: فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: [يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا] الحديث. ([1])
إنه العدل، الذي يعلو فوق أواصر القرابة والإخاء، بل والنفس، حيث قال الله تعالى، واصفا حال المؤمنين إزاء العدل فقال: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً[([2]) ‘نه العدل، الذي لا تحوله عن مساره عداوة، ولا يؤثر فيه هوى. إنه القسط القائم على التقوى، حيث قال تعالى: ]يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ[ ([3])
إننا لنرجو أن يأتي اليوم، الذي يظلنا فيه العدل، ويرفع عنا فيه الظلم، ويزول الظالمون، وتزول دولتهم، ويفنى سلطانهم، وتزلزل عروشهم إلى الأبد، وترفرف على ديارنا وبلادنا راية القرآن. ويومها يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء، وهو العزيز الحكيم. والله ذو الفضل العظيم.



[1] - رواه مسلم والترمذي وابن ماجه.
[2] - ســورة النساء:135
[3] - ســورة المائدة: 8