الحلقة السادسة عشر من التأملات القرآنية


حمدا لله تعالى، وصلاة وسلاما على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى سيدنا محمد r وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. وبعد

فإن تأملاتنا في هذه الحلقة، سوف تكون حول الإنسان، وتكريم الله إياه. ذلكم المخلوق المكرم، الذي سواه الله ونفخ فيه من روحه، وجعله في الأرض خليفة، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق، وجعل منه الأنبياء والمرسلين. ]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً . يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَـئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً . وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً[([1])
ولقد كرم الله هذا المخلوق البشري على كثير من خلقه. كرمه بخلقته على تلك الهيئة،  بهذه الفطرة، التي تجمع بين الطين والنفخة, فتجمع بين الأرض والسماء في ذلك الكيان. !
وكرمه بالاستعدادات، التي أودعها فطرته; والتي استأهل بها الخلافة في الأرض, يغير فيها ويبدل, وينتج فيها وينشئ, ويركب فيها ويحلل, ويبلغ بها الكمال المقدر للحياة.  
وكرمه بتسخير القوى الكونية له في الأرض، وإمداده بعون القوى الكونية في الكواكب والأفلاك.  
وكرمه بذلك الاستقبال الفخم، الذي استقبله به الوجود, وبذلك الموكب، الذي تسجد فيه الملائكة، ويعلن فيه الخالق جل شأنه تكريم هذا الإنسان. !
وكرمه بإعلان هذا التكريم كله في كتابه المنزل من الملأ الأعلى الباقي في الأرض،  القرآن . .
]وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر[ِ والحمل في البر والبحر، يتم بتسخير النواميس وجعلها موافقة لطبيعة الحياة الإنسانية، وما ركب فيها من استعدادات, ولو لم تكن هذه النواميس موافقة للطبيعة البشرية، لما قامت الحياة الإنسانية, وهي ضعيفة ضئيلة بالقياس إلى العوامل الطبيعية في البر والبحر، ولكن الإنسان مزود بالقدرة على الحياة فيها, ومزود كذلك بالاستعدادات، التي تمكنه من استخدامها. وكله من فضل الله.
]وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ[. والإنسان ينسى ما رزقه الله من الطيبات بطول الألفة، فلا يذكر الكثير من هذه الطيبات، التي رزقها، إلا حين يحرمها. فعندئذ يعرف قيمة ما يستمتع به, ولكنه سرعان ما يعود فينسى هذه الشمس. هذا الهواء. هذا الماء. هذه الصحة. هذه القدرة على الحركة. هذه الحواس. هذا العقل. هذه المطاعم والمشارب والمشاهد. هذا الكون الطويل العريض، الذي استخلف فيه, وفيه من الطيبات ما لا يحصيه.
]وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً[.  فضلناهم بهذا الاستخلاف في ملك الأرض الطويل العريض. وبما ركب في فطرتهم من استعدادات تجعل المخلوق الإنساني فذا بين الخلائق في ملك الله.



[1] - ســورة الإسراء :70- 72
ومن التكريم أن يكون الإنسان قيما على نفسه, محتملا تبعة اتجاهه وعمله. فهذه هي الصفة الأولى، التي بها كان الإنسان إنسانا. حرية الاتجاه وفردية التبعة. وبها استخلف في دار العمل. فمن العدل أن يلقى جزاء اتجاهه وثمرة عمله في دار الحساب:
ومما سبق يتضح لنا أن المجال الذي يدور حوله الحديث: هو ذلكم الإنسان، الذكر والأنثى، المؤمن منه والكافر، الطائع منه والعاصي، الأبيض والأسود، العربي والأعجمي، الكبير والصغير، الغني والفقير، الملك والمملوك، العظيم والحقير. فإن كل واحد من هؤلاء - باعتباره من البشر - مكرم وداخل في هذا التكريم بغض النظر عن لونه، أو جنسه، أو اعتقاده. وتكفي الإشارة إلى أن الله تعالى، إنما كفل الأرزاق لكل البشر، بل لكل المخلوقات، وأوضح ذلك في كتابه فقال: ]وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم[ ([1]) وقال تعالى: ]وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ[ ([2]) ومن رحمته سبحانه أنه لم يجعل رزق الإنسان، ولا أجله بيد الإنسان، لأن الله تعالى يعلم شح النفس، التي جبل عليها الإنسان، لذلك فقد استأثر بها هو سبحانه وتعالى.
وفي ذلك يقول الله تعالى: ]قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُوراً[ ([3])
اهتمام الإسلام بالإنسان ووجه الاهتمام به
ولقد اهنم الإسلام بالإنسان، منذ خلقه وأوجده على ظهر الأرض، ومنذ نشأته الأولى. وأعني بالإسلام هنا ذلكم الدين الذي جاء به جميع الأنبياء والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى نبينا محمد r لقوله تعالى: ]إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنَّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ[ ([4])
ومن هذا المنطلق فإنه يمكن القول بأن اهتمام الإسلام بالإنسان قديم منذ أن خلق الله الإنسان، حيث إن هذا الإنسان هو الذي سوف يكون له شأن عظيم في هذه الأرض.
يقول الشهيد سيد قطب في ظلاله: لأمر عظيم خلق الله الإنسان، ليكون مستخلفا في الأرض , مالكا لما فيها, فاعلا مؤثرا فيها. إنه الكائن الأعلى في هذا الملك العريض; والسيد الأول في هذا الميراث الواسع. ودوره في الأرض إذن وفي أحداثها وتطوراتها هو الدور الأول; إنه سيد الأرض وسيد الآلة ! إنه ليس عبدا للآلة، كما هو في العالم المادي اليوم. وليس تابعا للتطورات التي تحدثها الآلة في علاقات البشر وأوضاعهم، كما يدعي أنصار المادية المطموسون, الذين يحقرون دور الإنسان ووضعه فيجعلونه تابعا للآلة، الصماء وهو السيد الكريم ! وكل قيمة من القيم المادية لا يجوز أن تطغى على قيمة الإنسان, ولا أن تستذله، أو تخضعه، أو تستعلي عليه; وكل هدف ينطوي على تصغير قيمة الإنسان, مهما يحقق من مزايا مادية, هو هدف مخالف لغاية الوجود الإنساني. فكرامة الإنسان أولا, واستعلاء الإنسان أولا, ثم تجيء القيم المادية



3 - سورة العنكبوت/60
4 - سورة هــود/6
1 -  ســورة الإســراء/100
2 -  سورة آل عمران/19
تابعة مسخرة. وإذن فهي منزلة عظيمة, منزلة هذا الإنسان, في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة. وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم . ([1])
قال تعالى: ]وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ . وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ . قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ . قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ . وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ[ ([2])
أما وجه اهتمام الإسلام بالإنسان.
فإن خير ما يستدل به على اهتمام الإسلام بالإنسان منذ أن خلقه الله تبارك وتعالى هو: إرسال الله الرسل لخلقه، لتعريفهم بالخالق، ولربطهم بالرب سبحانه وتعالى، ] الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى . وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى . وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى [ ([3])
فالإنسان من حقه أن يهتدي إلى ربه، وأن يعرف خالقه، ولا سبيل إلى ذلك، إلا عن طريق الأنبياء والرسل صلوات الله وتسليماته عليهم. فإن لم يتعرف الإنسان على خالقه ويعرف حقه فإنه لا فرق بينه وبين الأنعام، بل إنه سيكون أضل منهم، وذلك ما أخبر به المولى جلت حكمته إذ قال: } وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{ ([4]) فكون الله تعالى يرسل الرسل إلى البشر، فإن ذلك يعد اهتماما بهم، فمهمة الرسل لاتقتصر على ربط الإنسان بربه فحسب، ولكن مهمتهم أيضا تعريفهم بحقوقهم، ومعالجة قضاياهم، وحل مشكلاتهم، والحد من المظالم التي تحدث بينهم.
فما من مجتمع ولا أمة إلا وقد فشا فيها نوع من الإنحراف، سواء أكان انحرافا عقائديا، أم أخلاقيا، أم انحرافا سلوكيا، أم انحرافا اجتماعيا؟ وكل هذه الانحرافات تؤثر ثأثيرا سلبيا على حقوق الآخرين، لذلك فإن الله تعالى أرسل الرسل، اهتماما منه سبحانه، بهذا الإنسان حتى لا يتظالم الناس، ولا يتقاتلوا، ولا يتقاطعوا.
وإذا كان الله تعالى، قد كرم الإنسان، وأعلى قدره، وسخر له كل شيء، فما هو دور ذلك الإنسان تجاه ربه وخالقه ؟ إنه يجب أن يكون دوره، هو دور الشاكر العابد الخاضع لسلطان ربه، والمتبع لهدي رسوله وشفيعه، حيث إن الله تعالى، سخر كل شيء من أجلك أيها الإنسان، حتى تكون مسخرا لربك، فقد كفاك الله كل شيء، حتى تتفرغ لعبادته، وذلك كما قال الله تعالى: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ[([5])  



1 -  في ظلال القرآن  سيد قطب 1/56 دار الشروق القاهرة. الطبعة العاشرة1401-1981
[2] - ســورة البقرة .30- 34
[3] - ســورة الأعلى : 2-5
[4] -  سورة الأعراف /179
[5] - ســورة الذاريات:56- 58